لو كان ثمة من فضل واحد يُذكر لإنصاف ما أتت به ارتجاجات "الربيع العربي"، فسيكون لا محالة نجاح فاعليها، وإن بطريقة عرضية، في إثارة المسألة الدستورية، وتحويلها إذا لم نقل إلى أولوية قصوى في أجندات "الحكام الجدد"، فعلى الأقل إلى قضية مركزية في ترتيبات مرحلة ما بعد موجات "الربيع العربي". وسواء أفردت لإعداد الوثيقة الدستورية "الجديدة"، وثيقة ما بعد سقوط النظم القائمة، لجان مختصة داخل البرلمانات المستحدثة، أو عهد بأمرها إلى خبراء في القانون الدستوري متمرسين وذوي مصداقية، فإن هاجس هؤلاء كما أولئك (أو هكذا يبدو لنا الأمر) إنما صياغة ورقة تأسيسية تضمن توازنا دقيقا بين السلطات التقليدية الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، من خلال تقسيم الصلاحيات فيما بينها، وترسيم الحدود التي تضمن استقلالية بعضها البعض، وتبعدها بالتالي، لا سيما فيما يتعلق بالسلطة القضائية، عن المزايدات السياسية وتدافعات الفاعلين بالمجال العام. بيد أن سياقات صياغة الوثيقة الدستورية قد اصطدمت بمعظم تجارب "الربيع العربي" (في مصر وتونس وليبيا وإلى حد ما في المغرب) باستقطابات حادة، شارفت في بعضها على المواجهة المتشنجة، فيما يتعلق بوظيفة وحدود السلطة القضائية، والدور الذي من المفروض أن تقوم به، إذا لم يكن لبناء دولة الحق والقانون، فعلى الأقل لتدبير مرحلة الانتقالات المضطربة. تجاذب واقع الاستقطاب هذا موقفان أساسيان اثنان: - موقف أول ينادي بالاستقلالية التامة للمؤسسة القضائية، بنية وبنيانا، عن باقي المؤسسات، مع السمو بها إلى مرتبة سلطة قائمة الذات، محايدة، مترفعة عن المزايدات، وبعيدة عن التشنجات التي لا تسلم منها مؤسستا الحكومة والبرلمان، باعتبارهما المؤتمنيْن على السلطتين التنفيذية والتشريعية. " صياغة الوثيقة الدستورية اصطدمت بمعظم تجارب الربيع العربيباستقطابات حادة، شارفت في بعضها على المواجهة المتشنجة، فيما يتعلق بوظيفة وحدود السلطة القضائية، والدور الذي من المفروض أن تقوم به، إذا لم يكن لبناء دولة الحق والقانون، فعلى الأقل لتدبير مرحلة الانتقالات المضطربة " لا يقف أصحاب هذا الموقف عند هذه الجزئية وإن على أهميتها القصوى، بل ذهبوا لحد المطالبة بأن يكون الجهاز القضائي سيد نفسه، في تطبيق القوانين واللوائح والتشريعات نصا وتأويلا، كما في تدبير مجاله، تعيينا وترقية وتأديبا. - وموقف ثان، يرى أن الاستقلالية التامة للمؤسسة القضائية، وإن كان طموحا مشروعا في المدى البعيد، فإن من شأن الدفع به اليوم إلى أقصى مدى، إفراز "دولة داخل الدولة" (دولة القضاء يقول البعض)، قد ينتفخ جهازها ويتغول، فيتعذر بالتالي لجمه أو ضبط سلوكه، بوجه السلطتين التنفيذية والتشريعية، كما بوجه الأفراد والجماعات على حد سواء. ويتابع أصحاب هذا الرأي بالقول بأنه لو فصلت السلطات الثلاث فصلا كاملا وقاطعا فسنكون في النهاية، بإزاء سلط منتظمة على شكل جزر معزولة، مستقلة ومحصنة بعضها بوجه بعض، مما قد ينذر بالتصادم والاحتراب، ولربما القطيعة المفضية حتما إلى الفوضى، إذا تسنى لكل منها أن تزايد على الأخرى، تتضايق من سلوكها، ترفض التعامل معها، تنازعها الاختصاصات، ولا تقبل بالانصياع لقراراتها، وهكذا. وإذا كان موقف الفريق الأول يبدو بديهيا، برأي العديد من فقهاء القانون الدستوري، على اعتبار أن القاعدة القانونية واحترام حقوق الأفراد والجماعات لا يمكن أن يضمنا إلا في ظروف تحرر القضاء من أي تدخل، فإن محدودية ذات الموقف تبدو صارخة للعيان، كونه لا يأخذ بعين الاعتبار المحيط العام الذي تشتغل في إطاره ذات القاعدة، تفعل فيه وتتفاعل معه في الزمن والمكان. ولهذا السبب، يبدو طرح الموقف الثاني طرحا احترازيا (ولربما استباقيا أيضا) كونه يقف عند ثلاثة عناصر تتراءى له غير مستحضرة من لدن الدافعين بالموقف الأول: - العنصر الأول ويتمثل في رأيهم، في احتمالات تغاضي "دولة القضاة" (إن تسنى لها أن تؤسس وتبنى) تغاضيها عن بعض معطيات واقع الحال لإعمال قاعدة قانونية ما، قد يكون من شأن إعمالها الإضرار ولو مؤقتا بالمصلحة العامة، أو الدفع بالبلاد إلى أتون "مطاردة للساحرات"، قد تبدأ وقد لا يعرف المرء لها مدى ولا منتهى. ويستدل أصحاب هذا الطرح بـ"نازلة الربيع العربي"، وكيف قد تفضي متابعة رجال النظام السابق في هذا البلد أو ذاك، إلى نسف بوادر المصالحة المأمولة، إلى إشاعة جو من الريبة والخوف، وإلى تقويض آمال الانتقال الديمقراطي المنشود بالمحصلة النهائية. يقر أصحاب الرأي إياه بضرورة أن يكون القضاء مستقلا وبعيدا عن المزايدات الآنية العابرة، لكن شريطة أن يكون (أعني القضاء) ضابطا لإيقاع ما يتموج، وألا يتحول إلى أداة مباشرة لتصفية الحساب مع هذه الجهة أو تلك، أعني إلى توظيف القانون ولي عنق نصوصه ليتماهى مع حسابات هذا الطرف أو ذاك. - العنصر الثاني ويكمن، في نظرهم، في ضرورة فك الالتباس القائم في العلاقة بين مؤسسة معينة تنشد الاستقلالية ("مؤسسة" القضاء)، وبين مؤسستين (التشريعية والتنفيذية) تعبران عن عهدة شعبية تستوجب منهما ليس فقط صياغة السياسة القضائية العامة، بل أيضا إقامة أسس نظام قضائي عادل ومنصف. " يرى البعض أنه لو تم فصل السلطات الثلاث فصلا كاملا وقاطعا، فسنكون بالمحصلة النهائية، بإزاء سلط منتظمة على شكل جزر معزولة، مستقلة ومحصنة بعضها بوجه بعض، مما قد ينذر بالتصادم والاحتراب، ولربما القطيعة المفضية حتما إلى الفوضى " كيف -يقول هؤلاء- لجهاز معين، تتأتى مصادر عمله من المال العام، يقوم على تطبيق القوانين الصادرة عن الحكومة و/أو عن المؤسسة التشريعية، أن "يتطاول" على جهازين يستمدان شرعيتهما من صناديق الاقتراع ("سياسيو الصناديق" بمنطوق البعض)، ولا استعداد لديهما لتقديم الحساب (فما بالك بالتعرض للمساءلة القضائية) إلا أمام من فوض لهما مشروعية الحديث باسمه؟ كيف، يتابع هؤلاء، أن يستفرد القضاء بسلطة كاملة وهو الذي لا صلاحية من بين يديه ولا من خلفه، إلا صلاحيات تنفيذ التشريعات التي تصدر عن الجهازين صاحبي المشروعية الانتخابية؟ بل، يؤكد هؤلاء، كيف لجهاز غير منتخب أن يبت في قضايا هي من صلب المؤسسات المنتخبة؟ من جهة أخرى، يتابع هؤلاء التساؤل: إذا كنا اليوم نلجأ إلى الحكومة عند كل اختلال فيما يمس القضاء، فمن سنحاسب غدا؟ أم أن مواجهة المجتمع ستكون من ممثل النيابة العامة أو الوكيل العام؟ الخشية، كل الخشية هنا، لا تكمن فقط في تعذر سبل محاسبة المستويات القضائية (على الأقل تلك التي تكون عادة تابعة لوزارات العدل)، بل تكمن أيضا في احتمال تعسف المستويات إياها، وتجاوزها على صلاحية الإشراف على تنفيذ السياسات العمومية في هذا المجال. - أما العنصر الثالث فيتمثل، في نظر أصحاب الموقف الأول، في الخشية، إن تسنى للسلطة القضائية أن تحرز الاستقلالية الكاملة ("تحرير" النيابة العامة تحديدا)، من أن تتحول إلى لوبي حقيقي، قد لا يتوانى فقط في إعمال المتابعة ضد هذا أو ذاك، من خلال تأويل مطاط للقاعدة القانونية، أو لي عنقها لتخدم هذه الأجندة أو تلك، بل قد يذهب حد التواطؤ مع هذه الجهة أو تلك، لتصفية حسابات ما، أو خدمة ترتيبات قد لا تكون دائما سليمة في العرف القضائي المعتاد. إذا لم يكن الأمر كذلك، يقول هؤلاء، فكيف تفسير، فما بالك تبرير، حفظ ملف هذا السياسي أو تحريك المتابعة ضد ذاك؟ ليس هذا فحسب، بل إن الدافعين بهذا الطرح لا يخفون تخوفهم من عودة ممارسات الدولة العميقة، لا سيما وقد ثبت من سلوكها أنها غالبا ما تتدثر بثوب الخصم تارة والحكم تارة أخرى، وفق الظروف والسياقات، بغرض ترجيح هذه الكفة أو تغليب تلك: - فهي (الدولة العميقة أعني) التي عمدت، عندما سقطت الأنظمة السياسية بمصر وليبيا وتونس وإلى حد ما اليمن، إلى إخفاء الأدلة التي كان من شأنها إدانة أركان ذات الأنظمة، بل وعمدت للتنسيق مع الأجهزة القضائية لإطالة آماد القضايا التي تنظرها منصات القضاء، وإشغال هذه الأخيرة بحيثيات إجرائية وروتينية، ألهت الناس أكثر ما أنصفت الضحايا أصحاب الحق الثابت. - ثم هي التي تحركت، عندما انحسر مد "الربيع العربي"، لتملي على القضاء طبيعة الأحكام "الجديدة" بحق هؤلاء (وكانت التبرئة هي الخيط المشترك لها)، مع إعادة الاعتبار لهم، في حين زجت في السجون من كان خلف الانتفاضات أو من أتى للسلطة ديمقراطيا في أعقابها. ولذلك، فإن أصحاب هذا الطرح لا يبدون اطمئنانا يُذكر لفرضية استقلالية القضاء، بل ذهبوا لحد اعتبارها إخلالا بالتوازنات الهشة التي تطبع العلاقة بين السلطات، وتمنحها الحد الأدنى من المراقبة والمحاسبة. وشاهدهم على ذلك إنما هو خروج بعض القضاة للتمرد على السلطتين التشريعية والتنفيذية، واعتبار ما تنوي الإقدام عليه من إصلاح لمنظومة السلطة القضائية مجرد كلام عابر. " إن ربط الاستقلالية بالمسؤولية (لا سيما فيما يتعلق بجهاز النيابة العامة) مع جعل المسؤولية إياها تحت رقابة وتقييم المؤسسة التشريعية، سيكون من شأنه لا محالة تكريس حكامة قطاع العدل بوجه عام، وتجنب تحكم القضاة وتغولهم على حساب باقي السلطات الموازية " تقول قاضية مغربية بإحدى محاكم غرب البلاد، بخصوص مشروع القانون المنظم للسلطة القضائية بالمغرب: "... لا تنسوا زملائي أننا الأقوى وأصحاب الكلمة الفصل في كل ما سيحصل. فالمحاكم ملعبنا، والقانون عملنا، وخباياه لا تخفى علينا، وتفسيره جزء كبير من مواهبنا، وأسراره الهواية التي نتسلى بها. فلا خوف علينا لأن مكة أدرى بشعابها، لأننا في كل مرحلة سنجد دائما أسلوبا مبتكرا يرد كيدهم في نحورهم، ويجعلهم يندمون على اليوم الذي خطت أيديهم هذا القانون أو ذاك، فلن نعدم الوسيلة". ما البديل إذن في ظل هذا القول وذاك القيل؟ ثمة ثلاث فرضيات بالإمكان إعمالها من لدن هذه الدولة أو تلك، كل وفق ظروفها وسياقها العام: -الفرضية الأولى وتتمثل في إبقاء الأمور كما هي عليه، أي ترك مستوى النيابة العامة بين يدي الجهاز التنفيذي (وزارات العدل في هذه الحالة)، تماما كما هو معمول به في العديد من الدول الديمقراطية، نظرا لنجاعته ومرونته كحل، وأيضا لكونه يبقي المجال بعيدا عن تحكم القضاة. بيد أن عيب هذا الحل أنه لا يسهم كثيرا في الدفع بمبدأ استقلالية القضاء، ويبقي جزءا من هذا الأخير تحت وصاية الحكومة، لها أن تحركه متى يعن لها ذلك، ولها أن تقدم على العكس حسب ما يبدو لها ويتراءى. - الفرضية الثانية وتتمثل في منح النيابة العامة الاستقلال الكامل عن كافة السلطات الأخرى، وجعلها تدير أمورها بنفسها، على مستوى وضع السياسات كما على مستوى تطبيقها على الأرض. وهو ما يطالب به القضاة، ويعتبرون أن من شأنه الارتقاء بالقضاء إلى مستوى سلطة مستقلة، موازية لباقي السلطات. إلا أن محدودية هذا الطرح أنه يحيلنا صوبا على أطروحة "دولة القضاء" المتحدث فيها أعلاه. - الفرضية الثالثة ومفادها الانطلاق من خلفية أن الفصل بين السلطات إنما هو فصل نظري في العديد من جوانبه، يميز فيما بين السلطات بمقياس الامتيازات والحقوق التي لكل واحدة منها مراقبة السلطة الأخرى، بما يضمن التوازن بين هذه السلطات ليس إلا. وهو أمر لا يضمر تدخل هذه في سلطة تلك، من زاوية التجاوز على الصلاحيات والاختصاصات، بقدر ما يدفعها إلى ركوب ناصية المسؤولية والحكامة التي من المفروض أن يعمد إلى إعمالها بالسلطات مجتمعة. وعليه، فإن ربط الاستقلالية بالمسؤولية (لا سيما فيما يتعلق بجهاز النيابة العامة) مع جعل المسؤولية إياها تحت رقابة وتقييم المؤسسة التشريعية، سيكون من شأنه لا محالة تكريس حكامة قطاع العدل بوجه عام، وتجنب تحكم القضاة وتغولهم على حساب باقي السلطات الموازية.