أولا باريس هي عاصمة التنوير العالمي، فمنها انطلقت تلك الحركة الفكرية الشهيرة في القرن الثامن عشر على يد فولتير وروسو والموسوعيين، ثم استمرت في القرن التاسع عشر على يد إرنست رينان وفيكتور هوغو وميشليه وعشرات غيرهم، ثم ترسخت أكثر فأكثر في القرن العشرين على يد كوكبة من المفكرين ليس أقلهم دوركهايم وغاستون باشلار وهنري بيرغسون وبقية العباقرة. وعلى هذا النحو تم القضاء على الأصولية الكاثوليكية ومحاكم التفتيش والفكر المذهبي والطائفي القديم. على هذا النحو تم تدشين الأزمنة الحديثة: أي عصر حقوق الإنسان والمواطن والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات واحترام كرامتهم الإنسانية أيا تكن أصولهم العرقية أو الدينية أو المذهبية. فالدين لله والوطن للجميع. وكل إنسان يستحق أن يُحترم في إنسانيته أيا يكن بشرط أن يكون مستقيما، صالحا، أخلاقيا، في تعامله. الدين المعاملة. نقطة على السطر. ما معنى شخص غشاش من جماعتنا؟ هل ينبغي أن نفضله على الآخر لمجرد أنه ينتمي إلى ديننا ومذهبنا؟ هنا يكمن الفرق بين العصور الوسطى / والأزمنة الحديثة. ولهذا السبب تقدموا وتأخرنا. فهم يضعون الإنسان المناسب في المكان المناسب ويحترمون الكفاءات والميزات الشخصية للفرد. ولا يقيمونه على أساس طائفي أو عشائري كما تفعل مجتمعات ما قبل الحداثة. وبالتالي فممنوع منذ الآن فصاعدا إثارة النعرات الطائفية بين المواطنين وتخريب الوحدة الوطنية للبلاد. وهذا ما يبرع به الأصوليون المتعصبون من كل الأديان والمذاهب. لقد ضربت حركة التنوير الفرنسي على أيديهم وأوقفتهم عند حدهم. ولذلك يكره الأصوليون فرنسا وأنوارها كرها شديدا. فبما أن التنوير الفرنسي نجح وترسخ، بل وانتقل بإشعاعه إلى دول أوروبا الأخرى ثم إلى كثير من دول العالم خارج أوروبا، فقد شعر الفكر الأصولي الطائفي المتعصب بأن نيران الحداثة قد تنتقل إليه لاحقا وتقضي عليه أو تهمشه على الأقل. ينبغي العلم بأن المستبد المستنير فريدريك الكبير ملك بروسيا، أي ألمانيا لاحقا، كان يتحدث في بلاطه باللغة الفرنسية. لماذا؟ لأنها كانت تعتبر لغة العلم والثقافة والفكر في كل أنحاء أوروبا آنذاك. بعدئذ حلت محلها اللغة الإنجليزية في عصرنا الراهن. وكان يستقبل في بلاطه كل فلاسفة فرنسا المطرودين من قبل الملك الأصولي الظلامي لويس الخامس عشر. وكان يعتبر فولتير صديقه وأستاذه. نعم، هناك ملوك يهتمون بالثقافة، بالفلسفة والفلاسفة! وأما كاترين الثانية إمبراطورة روسيا فكانت تعتبر التنوير الفرنسي أيضًا شعلة الفكر والحضارة. ولذلك دعت كبار فلاسفة الأنوار لزيارتها ومساعدتها على انتشال روسيا من الجهل وظلاميات القرون الوسطى. ولكن فولتير اعتذر نظرا لكبر سنه وشيخوخته. أما ديدرو فقد قبل الدعوة وذهب إلى هناك وخطط لمشروع التنوير الروسي وكيفية النهوض ببرامج التعليم هناك. ومعلوم أن الإمبراطورة أغدقت عليه بالعطاء مقابل خدماته الفكرية الجليلة وإضاءة الطريق لروسيا. لكن باريس ليست فقط عاصمة التنوير الفرنسي والأوروبي وإنما هي أيضًا عاصمة التنوير العربي! ينبغي ألا ننسى ذلك. فرفاعة رافع الطهطاوي مدشن النهضة المصرية الحديثة تخرج من هناك. وكتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» كان إنجيل النهضة والنهضويين. ومعلوم أنه أقنع محمد علي بفتح «مدرسة الألسن» لنقل الفكر الفرنسي والأنوار الفرنسية إلى اللغة العربية. وهذا ما فعله لاحقا طه حسين الذي تخرج من باريس أيضا. فقد ساهم بأسلوبه الممتع الذي لا يضاهى في التعريف بتيارات الفكر الفرنسي. وكان كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» إنجيل الحداثة المصرية والعربية لفترة طويلة. وفي عصرنا الحالي يمكن اعتبار محمد أركون بمثابة المنارة الثالثة للتنوير العربي. نقول ذلك وبخاصة أنه ذهب بعيدا أكثر في نقد الجمود الديني المهيمن على العالم الإسلامي. من هذه الناحية لا يمكن مقارنة الشيخ رفاعة به ولا حتى طه حسين. فالأسئلة التي طرحها على التراث الإسلامي كانت أكثر راديكالية بما لا يقاس. والمناهج الحديثة التي طبقها على تراثنا الديني العريق أدت إلى إضاءته بشكل غير مسبوق. لقد فتح محمد أركون ثغرة في جدار التاريخ المسدود للعرب والمسلمين ككل. ولولا أنه بقي في باريس بعد تخرجه وأصبح أستاذا في السوربون لما تجرأ على الانخراط في أبحاثه الرائدة التي توجت بنقد العقل الإسلامي التقليدي وتفكيك السياجات الدوغمائية المغلقة والسجون الطائفية لعقلية القرون الوسطى. وهو يعترف شخصيا بأنه نتاج المدرسة الفرنسية وبالأخص «مدرسة الحوليات» التاريخية الشهيرة وكل التجديد الذي حصل في الساحة الباريسية إبان الستينات والسبعينات من القرن المنصرم. كانت باريس وقتها مركز العالم من حيث ازدهار النظريات الحديثة في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية. يكفي أن نذكر اسم بروديل أو جورج دوبي أو جاك لوغوف لكي نتأكد من ذلك. وهم من كبار مؤرخي فرنسا، بل وراح مفكروها يهيمنون على الجامعات الأميركية ذاتها. وليس محمد أركون هو المثقف الوحيد الذي تأثر بالأنوار الفرنسية وإنما عشرات المثقفين من مشرق العالم العربي ومغربه. تقريبا لا يوجد مثقف واحد أو أديب واحد عندنا إلا وهو متأثر بشكل أو بآخر بالأفكار الفرنسية سواء على الطريقة الديكارتية أو الظاهراتية أو السريالية أو الوجودية أو البنيوية أو ما بعد البنيوية. هذا لا يعني أنه لا يوجد تأثير أنغلو - ساكسوني قادم من لندن أو نيويورك وواشنطن وهارفارد وبوسطن... إلخ. لا أريد المبالغة. هناك مصدران خارجيان لفكرنا الحديث، لا مصدر واحد. ولكن يظل لباريس وهجها أو سحرها الخاص، بل وحتى في ما يخص الفكر الديني فإن المفكر المغربي محمد العزيز الحبابي أسس الفلسفة الشخصانية الإسلامية على غرار الشخصانية المسيحية لإيمانويل مونييه وجماعته. وهي مدرسة هدفت إلى مصالحة المسيحية في نسختها الكاثوليكية مع الحداثة، فقد رفضت الإلحاد على الطريقة السارترية وفضلت عدم الخروج كليا على دين فرنسا وتراثها العريق. إنها طريق وسط بين الأصولية والإلحاد. وهو طريق محترم ويستحق الاهتمام. فليس من الضروري أن تكون ملحدا لكي تكون فيلسوفا حداثيا عظيما! وعلى أي حال فمن منا لم يسمع بأسماء ميشيل فوكو وجاك دريدا وجيل ديلوز وبيير بورديو؟ هذا ناهيك بجان بول سارتر وكلود ليفي سترس وسيمون دوبوفوار، هذا ناهيك بالفيلسوف المتدين الرائع بول ريكور، ولا ننسى الفيلسوف غير المتدين ولكن الرائع أيضا لوك فيري، وناهيك أيضا بالأدباء الكبار من أمثال أندريه بريتون ورينيه شار وأراغون وألبير كامو وجان جنيه... إلخ، إلخ. وعموما هناك جو معين منبث في باريس ما إن تدخلها، جو لا تعرف ما هو بالضبط، جو محبب خفيف ظريف يمكن تلخيصه بكلمة واحدة: الحرية. وأعتقد أن أدونيس كتب ديوانه الشهير «أغاني مهيار الدمشقي» في باريس مطلع الستينات. وهو الديوان المؤسس للحداثة الشعرية العربية ولا يقل خطورة أو انفجارا وتفجيرا عن «فصل في الجحيم» لرامبو. ولا ننسى أنه من بين كل عواصم أوروبا لا يوجد شيء اسمه «معهد العالم العربي» إلا في باريس. وقد أصبح صرحا من صروحها الشامخة على نهر السين تماما ككاتدرائية نوتردام أو مركز جورج بومبيدو الأشبه به. وقد أسهم معهد العالم العربي كثيرا في التعريف بلغتنا وآدابنا وثقافتنا إضافة إلى الفن التشكيلي العربي والسينما العربية والموسيقى العربية وفن العمارة العربية... إلخ. كل هذا من خصوصيات باريس، من نكهة باريس التي لا تضاهى. والآن يجيء هؤلاء الوحوش لكي يصوبوا نيران الكلاشنيكوف على الناس بشكل عشوائي في الشوارع والمقاهي والمسارح فيقتلوا ويجرحوا المئات في ظرف دقائق معدودات. وهم يعتقدون بذلك أنهم قضوا على باريس وأنوارها، بل وخدموا قضية الإسلام والعرب!! ولكنهم واهمون، ضالون مضللون، بل ومستلبون عقليا. وعلى أي حال فأنوار الحضارة ستظل مشعة وستكون باريس مقبرة للظلامية والظلاميين. التعليقات