لم أستمتع بشهر رمضان المبارك بقدر استمتاعي بقضائه في قريتنا عندما حل رمضان أثناء إجازة الصيف لعدة سنوات، حيث كنت أقارن ذلك بقسوة حلوله أثناء الدراسة خاصة طوال أيام الامتحانات. فكلما مر رمضان عليّ أتذكر «طوخ الأقلام»، وهو اسم قريتنا التي تبعد كيلومترين جنوب غربي السنبلاوين التي تبعد 20 كيلومترا جنوب شرقي المنصورة عاصمة محافظة الدقهلية في دلتا مصر، وأستعيد ذكرياتي الغالية مع والدي رحمه الله وقيم الريف الجميلة التي اكتسبتها من تلك الفترة خاصة في شهر رمضان. ولا أدري من أين جاءت «الأقلام»، لأن والدي هو أول من تعلم من أبناء القرية!.. ففي صغره اتضح لعائلة الباز أنه طفل نابه، وجمعوا ما يلزم من مال لإرساله إلى الأزهر حيث تبحر في العلم لمدة 16 سنة. بعد الحصول على عالمية الأزهر عمل معلما في المعاهد الدينية في الزقازيق ثم دمياط. أصبح بعد ذلك شيخا لمعهد شبين الكوم ثم عاد إلى القاهرة كرئيس للبعوث الإسلامية بإدارة الأزهر الشريف. كان والدي رحمه الله يصر على قضاء إجازة الصيف بالقرية حتى نتعرف على أبنائها ونتعلم من حياتهم بالممارسة. لذلك كنت أستمتع بقضاء الشهر المبارك مع أبناء العم والخال وذويهم. وكنا نشارك في إنتاج المحاصيل وجمع القطن وما إلى ذلك من عمل جماعي. تعلمت عندئذ أن العمل الجماعي في الفلاحة وجمع المحصول يشعر المرء بأهمية جهده كما أنه يتباهى بإتقانه. وكنا نقوم في رمضان في آخر النهار بجمع ما لذ وطاب من الخضراوات اليانعة لوقت الإفطار بسعادة بالغة. لم تكن الفضائيات ولا حتى التلفزيون قد ظهر آنذاك، وكان والدي رحمه الله أول من أدخل الراديو إلى القرية. وإضافة إلى كونه مصدرا لأمور الدين والميراث وما إلى ذلك، فقد أصبح أيضا مصدرا للأخبار. وكان يستمع إلى نشرات الأخبار باللغة العربية من القاهرة ولندن وغيرهما، ويهتم بشكل خاص بالاستماع لأخبار ونشاط الفدائيين من أبناء مصر الذين سعوا لدعم أبناء فلسطين والدفاع عن حقوقهم. وبعد صلاة التراويح كان كبار القرية يجتمعون حوله في الدوار ليستمعوا إلى تحليله للأوضاع السياسية، وكنا نشاركه في النقاش والاستماع حتى قبيل موعد السحور. كان يومنا يبدأ في الصباح الباكر بالعمل الجماعي في الحقول تحت إشراف «الخولي»، وهو المنسق والآمر الناهي في العمل الحقلي. وأذكر أنني لم أكن أشعر قط بالعطش أو الجوع أثناء هذا العمل. وأعتقد أن سبب ذلك أنه عمل إنتاجي يشعر المرء بأنه يشارك في القيام بغرض سام، فلا يهتم بالصعاب وينسى العطش والجوع على حد سواء. أجمل ما أتذكره عن تلك الأيام هو قيامنا بإعداد «موقف» يليق بموقع بقريتنا للقطار الذي يصل إلى مدينة السنبلاوين، لأنه كان يتوقف لثوان معدودة في الهواء الطلق بالقرب من ترعة الري. واتفقت مع أبناء الخال أن نعد «تعريشة» أي مظلة تحمي الناس من أشعة الشمس الحارقة أثناء الانتظار، فقمنا بإعداد ما يلزم من أعمدة خشبية وسقف من سعف النخيل. أثناء عملنا في الموقع وقف القشاش (وهذا كان اسم القطار) ونزل السائق والكمساري (المحصل) معا، وسألانا ماذا نفعل.. وعندما أخبرناهما ابتسما وقالا «من هذا الوقت فصاعدا من أحب منكم ركوب القشاش فله أن يركب ذهابا وإيابا دون دفع 1.5 قرش قيمة التذكرة». كان لهذا الدعم المعنوي وقع طيب لأنه دل على كرم شعب مصر البسيط وعلى أهمية تشجيع المبادرات الشبابية في صالح راحة المجتمع ورقيه.