مما ذكره الحافظُ أبوبكرٍ بن العربي، أنَّ الإمام الحافظ أبا بكر الإسماعيلي الشافعي الجرجاني (المتوفَّى٣٧١هـ) دخلَ يوماً مدينة الرَّيّ، وقصَدَ جامعها ليصلِّي فيه، وحين كبَّر لتحيَّة المسجد جلس بجواره رجلان يتذاكران، فعلَق بأُذُنه من كلامهما: “إن الطائفةَ الفلانيَّة أسخف خلق الله عقولاً، وينبغي للنِّحرير ألا يتكلَّف لهم دليلاً، ولكنْ يطالبهم بِلِمَ، فلا قِبَلَ لهم بها” وذكر حادثةً حدثت لأمير الدَّيلم وُشْكَمير بن زياد، ذلك أنَّ رجلا إسماعيلياً مُلْحِداً، كتب إلى وُشْكَمير يقول له: “إني لا أقبل دينَ محمدٍ إلا بالمعجزة، فإنْ أظهرتموها رجعنا إليكم” وجرَتْ بينهما مكاتباتٌ، إلى أنْ جاء إلى وُشْكَمير رسول، فقال له: “إنك أمير ومِن شأن الأمراء والملوك ألا تُقلِّدَ أحداً في عقيدتها، وإنما حقُّهم أن يفصحوا عن البراهين“ فتوافقوا على أنْ يختار وُشْكَمير عالِما لمناظرة الملحد، فطلب الملحدُ أنْ يناظره أبا بكر الإسماعيلي، لأنه يعلم أن أبابكرٍ حافظٌ للحديث، وليس من علماء الكلام، فوافق وُشمكير، لأنه كان يظنُّ أن أبا بكر الإسماعيليَّ أعلمُ أهل الأرض بكلِّ علم، ثم أرسل إلى أبي بكر الإسماعيلي في جرجان ليأتي إليه في غُزنة، وقال في نفسه: غدا سيَبْهَتُ الإسماعيليُّ المسلمُ، الإسماعيليَّ الكافرَ، فسافر أبو بكر الإسماعيلي إلى غُزنة، وكان يقول في نفسه: إنا لله وإنا إليه راجعون، كيف أُناظِرُ فيما لا أَدري! وفكَّر في أن يعتذر، وأن يُرشدَ الملك إلى مَن يُحسن المناظرة، وندمَ على ما سلف من عمره أنَّه لم يتعلَّم فنَّ المناظرة، غير أنه تذكَّر ما سمعَه من الرجلين بجامع الريّ، قال: “فَقَويَتْ نفسي، وعوَّلتُ على أن أجعل ذلك عُمْدَتي” وهذا ما حصل، فحين اجتمعا، أخذ الملحدُ في الكلام بإثارة الشُّبَه على دلائل التوحيد، وحين انتهى انبسَطَ الحافظُ في الكلام، وطالبَ الملحد بعَرْض بضاعته، بدلا مِن التشكيك، وقال له بيِّن لنا كيف يكون عدم رؤيته للخالق دليلا على عدم وجود خالق للخَلْق، فإذا بالملحد يُبهَتُ، ويظنّ أنّ الحافظ خبيرٌ بالمناظرة، فبدأ يتلعثم في الجواب، إذْ لم يجد ما يُسْعفُه للاستدلال على إلحاده، وتغيَّر وَجْهُه، واصْفَرَّ مِن الوَجَل، وانقطع عن الجواب، فرحم الله علماءنا كأبي بكر الباقلاني وغيره، حين ذكروا أنَّ الإلحاد لا يقوم على حجَّةٍ ولا يستندُ إلى دليل، ولذلك كان وجودُه في البشر نادراً، قال الحافظُ الإسماعيليُّ: فعلمْتُ أن دراسة دلائل التوحيد وعلم المناظرة عمدةٌ مِن عُمَدِ الإسلام، للحيلولة دون تشكيك المشكِّكين، وإلا فدلائل وحدانية الله تعالى واضحةٌ جليَّةٌ، تتجلَّى لنا فيما أظهره الله لنا مِن محاسن أفعالِه، ومن آثار جلاله وجماله، فقد وَهَبنا سبحانه مَلَكَةَ القابليَّة للاستدلال، ثمَّ نثر في الكون دلائل ربوبيَّته وتوحيده، ثم أمر بالنَّظر والتَّدبُّر كما في قوله: «أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ» وقد قال الشيخ أبو عبدالله بن القَوْبَع: «تأمَّلْ صُحَيْفاتِ الوجودِ فإنَّها ... من الجانب السَّامِي إليكَ رسائِلُ» «وقد خُطَّ فيها إنْ تأمَّلْتَ رَسْمَها ... ألاَ كلُّ شيء ما خَلا اللهَ باطِلُ» وفي معناه قول الشيخ حسن البُورِينِيّ: “وَرَقُ الغُصُونِ إذا نظَرْتَ دفاتِرٌ ... مَشْحونَةٌ بأدِلَّةِ التَّوْحيدِ” بل قال الإمام الغزالي رحمه الله: “دلالة الأثر على المؤثِّر أمرٌ مرتكز في طبيعة الحيوان” وهذا الأعرابي لماَّ قيل له: بم عرفت ربك؟ استند في جوابه إلى فطرته السَّويَّة، فقال: البعْرةُ تدلُّ على البعير، وآثار الأقدام تدلُّ على المسير، وقديما قيل: “قد يُستدَلُّ بظاهرٍ عن باطنٍ ... حيث الدخان فَثَمَّ مَوقدُ نارِ” وههنا نظرٌ يجب أن يتنبَّه إليه مَن يدعو إلى الإسلام، وهو أن ديننا كلُّه حقائق لا أوهام فيها، فليس فيه شيءٌ يُسْتَحْيَا منه، فمبادئ العقيدة الإسلامية تهدي إليها العقول الصحيحة، وتهدي إليها بيسيرٍ من التأمل والتفكُّر، من غير حاجة إلى دراسات معمَّقة ولا جدليات كلامية فلسفية، فمن فكَّر بقلبٍ متيقِّظ وعقل واعٍ، فإنه يدرك أن له في الله غنَى عن سائر المخلوقات، وأنه لا يُغنيه عن الله أحد، كما قال الشاعر:” لكل شيء إذا فارقْتَهُ عِوضٌ ... وليس لله إنْ فارقتَ مِن عِوض” فأَيسرُ ما يُجابُ به على الملاحدة والمشكِّكين، أنْ يطالَبوا بالدليل والبرهان.