في الروايات العلمية وحدها يمتزج الأدب والخيال، مع العلم والتقنية والرياضيات.. تقدم المعرفة (والنتائج المستقبلية لها) في قالب قصصي جميل يقبله العقل وتحتفظ به الذاكرة.. تشترك مع الأساطير في تسريب المعرفة وتجسيد الفرضية، وتختلف في انطلاقها من مبادئ علمية إلى احتمالات مستقبلية يؤمل تحقيقها.. تتميز عن بقية الأنواع الأدبية في أن من يكتبونها غالباً هم علماء (وليس أدباء) يلجأون للقصة لتقديم تصوراتهم للمستقبل والمدى الذي تتحقق عنده الأحلام... ولو سألت النقاد اليوم عن (أول رواية) ظهرت في هذا المجال سيشير معظمهم إلى صومنيوم أو الحلم في اللاتينية التي كتبها عالم الفلك الألماني يوهانس كيبلر.. وهي قصّة خيالية كتبها عام 1625 ثم نشرها ابنه لودفيغ بعد وفاته سنة 1634. وتروي القصّة مغامرات طالب صغير يتمّ نقله بقوى غامضة إلى القمر. ومن خلال القصة يقدم كيبلر وصفاً دقيقاً لطبيعة القمر وما تبدو عليه الأرض حين ننظر إليها من هناك.. ولم يعرف العالم قدر هذه الرواية إلا حين هبط الأميركان فوق سطح القمر في نهاية الستينات ودهشوا من تطابق الأوصاف التي أوردها كيبلر وماتبدو عليه الأرض حين صوروها من الفضاء الخارجي. أما عن يوهانس كيبلر نفسه؛ فقد ولد في جنوب ألمانيا عام 1571 لأب يملك حانة.. وبدل أن يصبح ساقياً كوالده وجده التحق بجامعة توبنجن حيث تعرف على نظرية العالم البولندي كوبرنيكولاوس الذي دحض النظرية الأغريقية القديمة (بأن الأرض تقع في مركز الكون) وأثبت أنها تدور مثل بقية الكواكب حول الشمس، التي تدور مع بلايين النجوم مثلها حول مركز المجرة. وبعد ذلك بوقت قصير اكتشف أن الكواكب تدور في مدار إهليجي (وليس دائرياً) كما تصور كوبرنيكولاوس.. كما اكتشف ظاهرة انكسار الضوء في الفضاء ووضع قوانين فلكية وتجاذبية كادت توصله إلى قوانين الجاذبية والحركة التي اكتشفها نيوتن لاحقا (علماً أن نيوتن اعترف بتأثير كيبلر حين قال: ما قمت به من اكتشافات تم لأنني صعدت فوق أكتاف العمالقة، وكيبلر واحد منهم).. ... على أي حال؛ السؤال الذي يهمني شخصياً (ومن أجله كتبت هذا المقال) هو: - هل "صومنيوم" هي فعلاً أول رواية علمية في التاريخ؟ ... أنا شخصياً يصعب عليّ تقبل ذلك (رغم إعجابي بأعمال كيبلر) لسببين بسيطين: الأول: أن الأساطير الهندية في كتاب المهاباترا سبقته في سعة الخيال وتحدثت عن مركبات طائرة (تشبة المقاتلات النفاثة) وأسلحة نارية (تشبة أسلحة الليزر) وقنابل متفجرة (تشبة خيمة الفطر المعروفة في التفجيرات النووية).. أما الأساطير العربية (وخذ كمثال قصص ألف ليلة وليلة) فتحدثت عن البساط الطائر (الذي يقاوم جاذبية الأرض) وحالات انتقال آنية ولحظية (تدعى تليبورت في أفلام الخيال العلمي) ودخول البطل في أبعاد فيزيائية غريبة (يقابل فيها جناً وشياطين وأشخاصاً متوفين). أما السبب الثاني (والأهم) فهو أن الفيلسوف العربي الأندلسي ابن الطفيل كتب رواية مدهشة تدعى "حي بن يقظان" سبق فيها داروين في نظرية التطور وتخلق الخلايا وتشكل الإنسان في مستنقع مائي لزج.. وفي حال علمنا أن ابن الطفيل توفي في مراكش عام 1185م فهذا يعني أنه سبق كيبلر في كتابة أول رواية علمية ب445 عاماً على الأقل!! ... ولضيق المساحة؛ أدعوك للبحث في جوجل عن رواية "حي بن يقظان" لتحكم بنفسك من سبق الآخر في كتابة أول رواية علمية في التاريخ.