أن يدشّن تنظيم «داعش» بيانه حول «غزوة باريس المباركة» بآية من سورة «الحشر» يعني أنّه يقوم بواجب دينيّ حضّت عليه الشريعة، ودعت إلى تنفيذه، والموت دونه. ثم إن اختيار الآية: «وظنوا أنّهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فاعتبروا يا أولي الأبصار»، جاء، كما يأمل التنظيم الإرهابيّ، موائماً لواقع الحال، ما يجعل النصّ القرآنيّ لدى أتباع التنظيم ومؤازريه والمتعاطفين معه يكتسب قدسيّة مضاعفة، ويغدو ملهماً لتنفيذ اعتداءات جديدة في غير مكان، ومن حيث لا يحتسب المُعتدى عليهم، مهما كانت حصونهم منيعة، واستخباراتهم قوية. ومع أنّ الآية المذكورة، استطراداً، تتحدث عن جلاء يهود بني النضير من المدينة إلى خيبر والشام، على نحو مهين ومذلّ، كما تذكر بعض الروايات، على رغم التّحصينات المتقنة التي شيّدوها، وظنّوا أنها ستحميهم من الرّعب الذي ألقاه المقاتلون المسلمون في نفوسهم، حتى خارت عزائمهم، كما يرى أحد المفسّرين، معلّقاً: «وما أشبه الليلة بالبارحة»! ومن معين هذه الترسانة الدينيّة ينهل «داعش» وقوى الظلام والتكفير. إنهم لا يقاتلون وحسب بالرشّاشات والبنادق الأوتوماتيكيّة والأحزمة الناسفة، بل أيضاً بالنّصوص الدينيّة التي لها فعلٌ مدوّ لا يدانيه فعل آخر. إنها الأيديولوجيا المدجّجة بالذرائع، والموّارة بالوعود، والمضاءة بقناديل الجنّة التي تلتمع من بعيد في عيون أولئك الموعودين بالحور العين، وأنهار الخمر والعسل، وما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر ببال. إنّها ترسانة جعلها «إسلام داعش» منصّة لإطلاق نيران الكراهية في وجه الحياة والرفاهية والرقيّ والتمدّن والتاريخ والعراقة... منصّة لإزهاق روح الجمال والتنوير والديموقراطية وقتل الفرح، لذا اختيرت بعناية الأماكن في باريس: ستاد رياضي، ومطعم ومقهى، ومسرح للموسيقى، والهدف هو الانقضاض على نمط العيش الأوروبيّ، والرفاه الذي وصله «التفكير الصليبي»! لذلك، فإنّ المطلوب هو أن يقذف الله في قلوبهم الرعب، وفق الآية القرآنية التي اتكأ عليها التنظيم الإرهابيّ، ليضرب عصب الحضارة الأوروبيّة بوحي من مركّبات نقص حضارية، ربما، لدى الطرف المعتدي، ورغبة مكبوتة بحرمان الآخر من حق الحياة والتلذّذ بمسراتها، لأنّ التمتّع بموسيقى فرقة «إيغلز أوف ديث ميتال» في مسرح باتاكلان إنما هو «حفلة عهر فاجرة» في منطق البيان الداعشيّ حول «غزوة باريس المباركة على فرنسا الصليبية». هاهنا يرغب هذا التنظيم الإرهابي في أن يُظهر الإسلام باعتباره ديناً استئصالياً، وديناً يكره الحياة، بل يعمل، بكل إصرار، على منع الآخرين من حبّها والاستمتاع بملذاتها. وقد كان هذا الخطاب شائعاً في أدبيّات الخطاب السلفي والحركات الدينيّة، لكنّه الآن ينفّذ بحد الموت مسنوداً بنصّ إلهيّ يحثّ على «إقامة شرع الله في الأرض»، حيث «إن الدين عند الله الإسلام» كما ورد في سورة آل عمران، وبالتالي، تؤكد السورة نفسها «ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين». ومثل هذا الخطاب الدينيّ المقدّس، الذي يعد بمثابة الوقود الأيديولوجي لـ «داعش»، متفشّ في عروق الثقافة الدينية العربية الإسلامية في أماكن وبلدان لا حصر لها. إنه خطاب عابر للزمان والمكان، تراه في المنهاج المدرسي الذي يدعو المسلمين: «واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل». ثم يؤكد في الآية التي تليها من سورة البقرة: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله». وترى ذلك الوقود الداعشي متمثلاً في آية السيف في سورة التوبة: «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخّلوا سبيلهم إنّ الله غفور رحيم». أو كما جاء في سورة المائدة: «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم». أو وفق السورة نفسها: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرّمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون». وإن يمّمت وجهك نحو الجامع في خطبة الجمعة فستجد ملتحياً يرغي ويزبد وهو يقذف حمم أدعيته، متبوعة بـ «آمين» مديدة، وهنا أقتبس من نص خطبة: «اللهم عليك بالصليبيين المجرمين المعتدين الحاقدين... اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً... اللهم إنّ الصليبيين قد قتلوا وأفسدوا وطغوا وبغوا وتجبّروا... اللهم اجعلهم حصيداً خامدين، وعبرة للمعتبرين يا حيّ يا قيّوم... اللهم عليك بمن والاهم، وبمن ساعدهم وناصرهم وظاهرهم... اللهم مكّن المجاهدين من رقابهم... اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان». لقد خاب ظن فوكوياما وهو يدلّل على «نهاية للتاريخ»، بالقضاء على الأفكار الأيديولوجيّة، وتخلُّص التاريخ الإنسانيّ من إرثها الثقيل، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتيّ والمنظومة الاشتراكيّة، لكنّ نار الأيديولوجيا لم تخمد أبداً، إذ لم تتسنّ هزيمة الأيديولوجيا الشيوعيّة إلا من خلال أيديولوجيا إسلاميّة قادها مقاتلو الجهاد السلفي الذين دعمتهم الولايات المتحدة والغرب، والعرب أيضاً، في أفغانستان. المستقبلُ مفخّخ بالأيديولوجيا التي تتغذى على النصوص الدينيّة وترفدها تأويليّاً في الوقت ذاته. ولنزع الفتيل المدمّر لتلك الأيديولوجيا، يتعيّن تفكيك النصّ أولاً، وترشيد المصفوفة الفقهية الثاوية فيه لمصلحة إنتاج فهم جديد للدين يراعي مقاصديّة الشريعة، كما ظهّرها الإمام الشاطبيّ، وينتصر للحياة ومعطياتها، ويقدّس الإنسان الذي استخلف من أجل إعمار الأرض، وتأثيثها بالعدل والخير والسّلام.