دأب الإنسان على إطلاق نعت على كل مرحلة من المراحل التي يمر بها المجتمع البشري كي يوصف المظهر الرئيس التي يميز هذه المرحلة عن سواها. البعض كان ينحتها من السمة الأساسية للنشاط الإنساني، فعرفنا مراحل مثل: الرعي، الزراعة، الصناعة... البعض الآخر كان يحلو له إضفاء صبغة النشاط الفني الغالب الذي يمارسه قطاع من المجتمع، فوجدناه يصفها بـ الانطباعية، أو السوريالية. وهناك من لجأ إلى الدين فتحدث عن المراحل البدائية، ثم التوحيدية، وفي نطاق هذه الأخيرة صنفها إلى المسيحية واليهودية وأخيرا الإسلامية. كثيرة كانت تلكم التسميات، وتفاوتت في دقتها، وكذلك في موضوعيتها. هذا ما أدى إلى اختلاف التسميات التي تصف مرحلة معينة بذاتها من تاريخ تطور المجتمعات البشرية. ففيما يطلق البعض على الفترة التي تمتد بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر بمرحلة الثورة الصناعية، يعتبرها البعض مرحلة انتعاش الظاهرة الاستعمارية، في حين يصنفها البعض الآخر بالمرحلة الرأسمالية. بطبيعة الحال يمارس النفوذ السياسي والعسكري ومساحة الدائرة التي يسيطر عليها من جانب، والإمكانات الإعلامية التي يملكها الفريق المصنِف (بكسر النون)، من جانب آخر، دوره القوي في فرض السمة التي يتبناها، ومن ثم يتحكم في نسبة فرضها على المجتمع البشري، وبالتالي في مدى نشر قاموس المفردات المستخدم لوصف تلك المرحلة على النطاق الدولي. من الصفات التي انتشرت مؤخرا في تصنيف المرحلة التي يمر بها المجتمع البشري في تاريخه المعاصر هي مرحلة تجدد بروز الإسلام السياسي، وفي نطاقه الضيق، مرحلة انتعاش الحالة الداعشية. ورافق ذلك مجموعة من الظواهر مثل تنامي حالات العنف، واتساع النطاق الجغرافي للعمليات، حتى باتت تطال عواصم نعمت بالاستقرار لما يزيد على عشرات السنين. وشأنها شأن المرحل الإنسانية الأخرى ولدت المرحلة الداعشية، إن جاز لنا استخدام التوصيف، حالة من الجدل المحتدم من جانب، ونحتت مجموعة من المفردات بعضها سياسي مثل التكفير، وبعضها الآخر لاهوتي مثل الحور العين، دون ان نستثني البعد العسكري الذي غلب عليه سمات التوحش. تثير هذه المرحلة الداعشية، مجموعة من الخواطر، أو الهموم بالأحرى. البعض منها مجتمعي، بمعنى أنه يسيطر على تفكير، ومن ثم ردود فعل نسبة ساحقة من المجتمع، سواء على المستوى الوطني المحدود، او الإقليمي الأكثر اتساعا، بل وحتى الدولي الأرحب فضاء، والبعض الآخر منها فردي يلازم الإنسان ويفرض نفسه عليه. وإن كان من المبكر رصد الحالة المجتمعية وقراءتها بشكل علمي رصين، فمن غير الخطأ تلمس الحالات الفردية الذاتية، والإفصاح عنها، كونها، في نهاية المسار ستكون تراكما كميا متواصلا يبيح الوصول إلى تلك النقلة النوعية التي تعبر عن الحالة المجتمعية. أول الهموم الداعشية، هي تلك السرعة التي بلغت سرعة انتشار النار في الهشيم، التي فرضت الحالة الداعشية نفسها، ليس في المنطقة العربية أو الإسلامية فحسب، وإنما على النطاق الدولي أيضا. ففي أقل عقد من الزمان، ورغم بشاعة صورة داعش في الإعلام، بل وحتى في أذهان الأفراد. لكن ليس هناك من بوسعه أن ينكر أنه وجد نفسه مأسورا بها، سلبا ذلك الأسر أم شجبا أو حتى إيجابا. ما يثير التساؤل هنا كيف يمكن لهذه الظاهرة الذي تشكل أكبر تحالف دولي معاصر من أجل القضاء عليه أن يواصل أنشطته المختلفة، دونما حسيب أو رقيب. والحديث هنا لا يقتصر على العمليات العسكرية وحدها، بل يتسع كي يشمل ما يرافقها من سلوكيات نهب، وتدمير للقيم الإنسانية، وهدم للتراث الإنساني، وما يجري على هامشها من تجارة دولية للنفط والبضائع الأخرى، بما فيها الفتيات السبيات والآثار. ثاني تلك الهموم تلك الهجرات الجماعية المتلاحقة من كل بقاع العالم من أجل الالتحاق بجيوش داعش. ينضوي تحت لواء هذا التدفق البشري أناس من مختلف الأعمار، ومن مختلف مشارب الأرض، بل ومن مختلف الديانات، بعد أن يشهروا إسلامهم. وما يلفت النظر هنا، فشل الأجهزة الأمنية، في إحدى الفترات، في الحد من ذلك التدفق البشري الذي تجاوز عشرات الآلاف باعتراف تلك الأجهزة وشجبها، حتى أصبح مثل الأمر الواقع الذي يستحيل وقفه. والتساؤل الذي يفرض نفسه هنا، ما هو السر الحقيقي الكامن وراء عجز أنظمة الأمن الدولية، بما تملكه من أجهزة متطورة تجعلها قادرة على رصد أنشطة داعش في مراحل مبكرة، تمكنها من منع حدوثها، تحاشيا للخسائر المادية، والأهم منها البشرية التي تتركها وراءها؟ ثالث تلك الهموم عربي في جوهره، وهو لماذا نتحمل نحن العرب سلبيات هذه الظاهرة، رغم إطارها الإسلامي الذي تتخفى تحته، وتتموه تحت جبته. فقد طابقت أجهزة الإعلام الغربية، ولا أظن أن ذلك من الصدفة المحضة وحدها، بين الحالتين: الداعشية والعربية، وتعمدت تحميل العرب، دون سواهم من شعوب العالم الإسلامي الأخرى، كل ما تقوم به المجموعات الداعشية من عمليات، رغم تعدد جنسيات من ينفذونها. وما هو أسوأ من ذلك، هو إرغامنا نحن العرب على تحمل ضريبة تلك العمليات على الصعيدين المعنوي والمادي. والتساؤل هنا هو لماذا تصر الدوائر الغربية، وفي المقدمة منها تلك التي في واشنطن على عدم تجاوز تهمة تحمل مسؤولية الأنشطة الداعشية الدائرة العربية؟ وتحرص على ألا يزج بقوميات أخرى في تحمل المسؤولية. تحضر المتابع للحالة الداعشية التي نتحدث عنها، تلك التي سبقتها وهي الأفغانية، عندما ابتكرت أجهزة أمن الاستخبارات المركزية الأمريكية تعبير الأفغان العرب. وليس هناك من حاجة لمزيد من التفصيل لشرح الأسباب الكامنة وراء هذه التسمية المفتعلة. هموم ذاتية فرضت نفسها، لكنها عندما تقرأ بشيء من العناية غير المنفعلة تثير الكثير من التساؤلات حول المرحلة الراهنة من مراحل التاريخ العربي المعاصر، وتستقرئ بعض معالم الطريق الذي لا يريد أي عربي أن يجد نفسه مجبرا على السير فيه.