×
محافظة المنطقة الشرقية

قتل الأبرياء

صورة الخبر

«المندرة.. الدرقاعة.. المشربية.. ملقف الهواء..الطاية.. البادهنج»، أسماء ومصطلحات حجازية، عربية، وربما عالمية، ابتكرها العرب الأقدمون، كحيل من حيل البناء والهندسة المعمارية في محاولة منهم للتكيف مع أجواء ومناخات عالمنا العربي، (الحار صيفًا، والبارد شتاءً). ولا عجب أن أجدادنا كانوا يضطرون لملاحف الديباج والحرير، لا سيما ذوي السعة منهم، في محاولة لتبريد أجسادهم المنهكة من شدة الحرارة ووهج أشعة الشمس الحارقة، كما كانوا يضعون «الجَص» أمام مداخل غرفهم، ورشها بالماء، ناهيك عن بنائهم المنازل وسط الحقول والمزارع من أجل تلطيف المناخ حولهم، خاصة في فصل الصيف، الذي نُحاول من خلال هذا التحقيق أن نُلقي الضوء على جزء من حيل هؤلاء الأجداد، وتقنياتهم الفنية، والمعمارية التي ابتكروها، للتأقلم مع أجواء مناخهم الحار منها، والرطب في المناطق الساحلية. هندسة بناء «المندرة، الدرقاعة، المشربية، ملقف الهواء، الطاية، البادهنج» ساعدت الأجداد على تحمل «لهوب الصيف» عبقرية البناء ما زال المهندس المعماري في عصرنا الحديث يكتشف يوماً بعد يوم، كيف كان الأجداد يبنون دورهم ومنازلهم ومساجدهم، مُراعين في ذلك الموقع واتجاه الرياح، والأحوال المناخية، ولك أن تسأل كيف وجد الأجداد (الطين اللبن والحجر والجبس والفخار المشوي «الأُجر») كمواد عازلة للأجواء الخارجية، حيث تُعطي تلك المواد للمنازل مناخاً لطيفاً وبارداً وسط حرارة الصيف، مُراعين في ذلك اتجاه الرياح، شرقاً أو غرباً، وكذلك شدة هبوبها، ومدى حرارة الشمس لتوفير الظلال على مبانيهم، حيث يُستفاد من مواقع الظلال في أوقات صلاة العصر مباشرة في «الرواشن والدكات»، لا سيما في الصيف، في حين تتميز الدور ذات الواجهة الغربية بالحرارة والدفء، خاصة في فصل الشتاء؛ بيد أنها تبدو حارة في الصيف ما لم تُغطها أشجار أو نخيل باسق. وكان للأجداد حيل في بناء (الرواشن والمجبب وبطن الحوي)، كما كان لهم طرق هندسية غاية في الروعة من حيث توزيع الهواء على كافة أنحاء وجنبات المنازل، وعليها كانت الخلوات في المساجد، وربما في بعض المنازل دليلاً آخر لحسن استغلال الهندسة المعمارية وتسخيرها للظروف المناخية هنا وهناك، كما أثبتت الدراسات الحديثة أن الأجداد كانوا على دراية بأهمية عنصر الماء، ونظراً لندرته وصعوبة الحصول عليه، فقد كانت دورة الماء تخرج من «الحسو» عبرَ «الساقية» إلى مزرعة الدار، كما كان استعمال «الخيش» و»الخمار» و»الشيلة» بعد غمسها بالماء ووضعها على نوافذ الدور صيفًا للحصول على تبريد أفضل. تقلبات المناخ يُعد تأثير المناخ من العوامل الرئيسة لتكوين وتشكيل المبنى منذ القدم، حيث تقع معظم الدول العربية والإسلامية في المنطقة ذات المناخ الحار مابين خطي عرض (10,30)ْ مما يزيد من درجات الحرارة عن أي منطقة أخرى، وهو ما يستدعي محاولة التكيف معه أو معالجته في أمور كثيرة. وقد تمت في الماضي وعلى مدى عصور متعاقبة إجراءات وأساليب خاصة تُثبت نجاحها بالرغم من بساطتها وذلك للمعالجة المناخية؛ سواء على مستوى الوحدة السكنية الصغيرة أو على مستوى التجمع في الريف أو المدينة. وكان ثمة مشكلتان مناخيتان رئيسيتان، يُعاني منها الناس منذ القدم، تتمثل في الحماية من أشعة الشمس الحارقة من جهة، وتوفير التبريد للفضاءات الداخلية من جهة أُخرى؛ لأن أشعة الشمس تُولد العناصر المناخية الثانوية كهبوب الرياح وتولد الرطوبة التي تؤثر في التعديل الحراري لجسم الإنسان، فإن شكل الأبنية ومواقعها ومواد البناء وألوان الواجهات، بالإضافة إلى تخطيط الفضاءات الخارجية مثل الشوارع والأفنية الداخلية والحدائق لها نفس التأثير المذكور. الهندسة المعمارية يعتبر الشكل من النواحي الهامة التي يتأثر المناخ بها، فمن القواعد العامة التي عُرفت منذ القدم، وحتى الآن؛ أنه من الأفضل أن تقام المباني في المناطق التي تهب منها الرياح، وليس في المناطق التي تهب إليها الرياح؛ فمن المعروف في الأقاليم المعتدلة أن الأودية والمنخفضات ترتفع فيها الحرارة ويكثر فيها الضباب، كما أن المساكن المقامة على القمم المرتفعة تتعرض للرياح العنيفة والأمطار الغزيرة والثلوج، وأنسب المواقع لإنشاء المساكن في تلك الجهات هي الارتفاعات المتوسطة في ظلال الجبال، حيث درجات الحرارة معتدلة وأشعة الشمس كافية ولا توجد رياح شديدة. «الرواشن، المجبب، بطن الحوي» ساهمت في توزيع الهواء على أنحاء وجنبات المنازل.. ومثلها خلوات المساجد وقد احتاج الإنسان للتكيف في سكنه، فراعى موقعه بالنسبة لما حوله من أجواء سكنية من حيث تلاصقها أو تباعدها؛ إذ أن تلاصق المنازل مع بعضها يجعلها في حاجة أقل للتدفئة. أما عن مناخ الحجرة فهو يتوقف على طبيعة جدرانها وعلى اتجاه فترات نوافذها وأبوابها وعلى طبيعة أرضيتها، وقد وُجد أن حجرة صغيرة المساحة بها نافذة متوسطة الاتساع تُفتح في اتجاه شمالي تحتاج إلى قدر من التدفئة في الشتاء يبلغ خمسة اضعاف ما تحتاجه حجرة أخرى نافذتها جنوبية، ويرجع هذا إلى استفادة النافذة الجنوبية بقدر كبير من أشعة الشمس بما يتلازم مع راحة الإنسان في المكان الذي يعيش فيه والتي تحقق توفير الحالات المناخية الملائمة له داخل المباني. واستطاعت الحضارة الإنسانية خاصة أقدم الحضارات (الفرعونية، السومرية والأشورية، واليونانية والإسلامية) أن تستغل أشعة الشمس بأسلوب علمي؛ لتوفير حماية الإنسان والكائنات الحية من درجات الحرارة المرتفعة، مع مراعاة القيم الوظيفية والجمالية؛ لذلك اعتمد التصميم المعماري على تأمين الانعزالية عن المحيط الخارجي لإيجاد فضاءات داخلية باردة نسبياً وغنية بالظلال. فمنذ القدم وسكان هذه المناطق يعملون على حماية أنفسهم بطرق ناجحة في حماية المباني، حيث تكون الظلال كثيرة في المبنى ذي الفناء الداخلي، وتتعرض الجدران لكمية أشعة شمس أقل من السقف نظراً لاختلاف تعرضهما لأشعة الشمس حسب اتجاهها خلال ساعات النهار، إلاّ أنها تتعرض للأشعة الشمسية المنعكسة خاصة في المناطق الصحراوية، حيث تكتسب الرمال الناعمة خاصية السطح العاكس؛ لذا تم اللجوء إلى تظليل الواجهات بواسطة كاسرات الشمس كالمشربيات أو مظلات الفتحات أو البُروزات بكتل من المبنى بذاته أو جعل الجدار سميكاً ومن مادة عازلة كالطين والطوب والحجر بأنواعه. ويخضع اختيار توجيه المبنى لاعتبارات الشمس أكثر من خضوعه لحركة الرياح، وذلك لضمان توفير أكبر قدر ممكن من الظلال والبعد عن الهواء الجاف الساخن الذي تتميز به مناطق وسط شبه الجزيرة العربية، حيث يمر الهواء على مناطق رطبة أو مظللة قبل وصوله إلى المبنى؛ مما يُحقق الاستقرار الحراري الداخلي. وقد اُستخدمت مواد البناء ذات السعة الحرارية العالية كالطين والطوب والحجر وجد الأجداد «الطين، اللِبن، الحجر، الجبس، الفخار المشوي» موادّ عازلة للأجواء الخارجية مع مراعاة اتجاه الرياح عند البناء بأنواعه، حسب زيادة سُمك الجدار، للتغلب على الحرارة الشديدة في المناطق الحارة والجافة، وفي الليل تنخفض درجة حرارة الهواء في تلك المناطق؛ لذا بَدلَ الناس السقوف أو السطوح إلى شُرفات أو أروقة مفتوحة أو سُقوف خفيفة من سعف النخيل؛ بهدف التظليل في أوقات النهار، وتأمين فضاءات ملائمة للنوم ليلاً، كما هو في مصر والعراق وإيران وسوريا وغيرها من البلدان، أما شكل هذه السقوف فهي ذات أهمية كبيرة حيث تزيد من سرعة الهواء. ويُذكر أن الخليفة العباسي «أبو جعفر المنصور» كان ينام على فراش من الديباج رغم شظف عيشه، وذلك بغرض تبريد جسده. التنقل الداخلي إن أي جزء من البيت لا يُسكَن إلاّ لفترة من اليوم أو الموسم، وذلك حسب استعماله على اتجاه هذا الجزء بالنسبة للشمس، فكل نوع من التنقل له حركة أفقية أوعمودية، فالتنقل الموسمي العمودي يعني ترتيب مناطق المعيشة الشتوية والصيفية فوق بعضها، ففي الصباح يُستعمل الطابق الأرضي واحياناً السرداب، وفي الشتاء تُستعمل الطوابق العلوية، أما التنقل الموسمي الأفقي فهو ترتيب مناطق المعيشة الشتوية والصيفية على نفس المستوى الأفقي، فمثلاً تُستعمل الجهة الشمالية صيفاً، والجهة الجنوبية شتاءً، سواء في الغرف أو في الإيوان، وقد اعتاد أهالي الجزيرة العربية لا سيما إقليم نجد على التنقل وفقاً للمواسم.. وتعتبر المشربيات من احد عناصر العمارة التقليدية في الدول العربية، والتي بدأ ظهورها في القرن السادس الهجري ابان العصر العباسي واستمر استخدامها حتى أوائل القرن العشرين ميلادياً. ويوجد في مدينة جدة القديمة (جدة البلد) أكبر عدد من المشربيات في المملكة وأكبرها، حيث تغطي طابقين كاملين، حيث يمكن عن طريقها التحكُّم في سرعة الهواء وتدفقه داخل الحيِّز الداخلي للمنزل، ومن فوائدها أيضاً ضبط رطوبة تيار الهواء المارّ من خلالها إلى داخل الدار أو الحجرة لطبيعة المادة المصنوعة منها، وهي المادة الخشبية المسامية المكوَّنة من الألياف العضوية التي تمتص الماء وتحتفظ به. وقد واجه المعمارى فى بلادنا الحارة مشكلات التهوية، والإضاءة، والاطلال على الخارج، واستقبال أشعة الشمس، وعجز النافذة وحدها عن الوفاء بحل هذه المشاكل جميعاً باللجوء إلى «المُنوح» أو «ملقف الهواء»، الذي لم يكن من ابتكار العرب ولكن سبقهم فى استخدامه المصريون القدماء في الأسرة التاسعة الإفادة عصراً من مواقع الظلال في «الرواشن والدكات» واستعمال «الخيش، الخمار، الشيلة» عند النوافذ عشرة، واستخدمه بعدهم أهل السند، وهو عبارة عن «مهوى» يعلو عن المبنى وله فتحة مقابلة لاتجاه هبوب الرياح السائدة لاقتناص الهواء المار فوق المبنى الذي يكون عادة أبرد، ودفعه إلى داخل المبنى، ويفيد الملقف أيضاً في التقليل من الغبار والرياح التي تحملهما عادة الرياح التي تهب على الأقاليم الحارة. أما «الصحن» أو ما يُسمى «بطن الحوي» فقد اُستخدم فى تكييف حرارة الجو؛ لأن الهواء البارد يهبط إلى أدنى مستوى ليلاً، ثم يتسرب إلى الحجرات فيلطف حرارتها، ويظل محصوراً بين جدران الصحن حتى ساعة متأخرة من النهار كأنه خزان للترطيب، وكان البَنَاء «الأُستاذ» في بلادنا يُبدي «بطن الحوي» اهتماماً كبيراً عند بدء التخطيط. وقد لجأ المعماري العربي في العهود الأولى لإحاطة الصحن بإيوانين للاستقبال، وتفادي أشعة الشمس، وفي بعض الأحيان كان المعمارى يضيف «السلسبيل» أو «الشاذوران» إلى النافورة، وهو لوحة جدارية من الرخام مزخرفة بنقوش خفيفة البروز تحاكي صفحة الماء حين يداعبها النسيم، وتوضع مائلة قليلاً في الجدار المقابل للإيوان الرئيس، وينساب الماء على سطحها إلى قناة يكسوها الرخام تفضي إلى حوض الماء. وقد استخدم القدماء ما يُسمى «التختبوش»، وهي مساحة أرضية خارجية مسقوفة تستعمل للجلوس وتقع بين الفناء الداخلي وتتصل من خلال المشربية بالحديقة الخلفية، مؤدياً إلى تكوين نسيم معتدل البرودة، أما «الشخشيخة» فهي تساعد على توفير التهوية والإنارة للقاعة التي تعلوها وتعمل «الشخشيخة» مع الملقف والمشربية على تلطيف درجة حرارة الهواء كما في المغرب العربي. استخدم القدماء «التختبوش» بين الفناء الداخلي والحديقة الخارجية و«الشخشيخة» لتوفير التهوية والإنارة ويُلاحظ أن المباني القديمة تتمتع بتهوية أفضل بكثير من المنازل الجديدة، حيث ان المنازل القديمة لم تُبن بنفس إحكام المنازل الجديدة، فلم يستعمل مواد عازلة لحفظ الحرارة بنفس القوة الحالية. المكيِف العباسي ويُعد «البادهنج- الملاقف» أول مكيِف للهواء في العصر العباسي، وصُمم ببراعة لتهوية القصور والديوانيات. وقد أشار إلى ذلك، المؤرخ الأُوروبي «دوزي» في كتابه (تكملة المعاجم العربية) بقوله (البادهنج أنبوب شبيه بأنبوب المرقد أو المدفأة يتخذ للتهوية)، وذكره أيضاً «عبدالله الشبراوي» في كتابه (عنوان البيان وبستان الأذهان)، واصفاً إياه بالمنخد الذي تجيء منه الريح لتلقي الهواء الملطف، ويسقطه من فتحات في السقف إلى القاعات والإيوانات. وتوجد نماذج أخرى منه في مدرسة تعود إلى العصر الأيوبي، وكان ممن ذكره الفلكي والمهندس المصري «ابن المُجديات» 850ه في كتابه (تحفة الأحباب في نصب الباداهنج والمحراب)، وكذلك كان القاضي الفاضل وزير السلطان صلاح الدين الأيوبي مولعاً به. مكيفات مركزية وفي 1820م، اكتشف الباحث والمخترع البريطاني «مايكل فاراداي» أن ضغط وتسييل غاز النشادر يمكن ان يبرد الهواء، ثم جاء في القرن السابع عشر المخترع الألماني» كورنيليوس دريبل» الذي أثبت أنه من الممكن بفضل ما وهبنا الله سبحانه وتعالى، من العلم أن نُحول الصيف إلى شتاء، ثُم أضاف «جيمس الأول» من إنجلترا الملح إلى الماء. وفي 1902 اخترع أول تكييف كهربائي حديث من قبل «ويليس هافيلاند» في «سيراقوس» بنيويورك، وفي عام 1906، اكتشف «ستيوارت دبليو» كريمر من الولايات المتحدة الأمريكية، السبل الكفيلة لتضيف رطوبة إلى الهواء في مصنع النسيج الذي يملكه، وسُمي التبريد التبخيري، ثم استخدمت على مر الزمن مكيفات الهواء في تحسين وسائل الراحة في المنازل والسيارات. وفي عصرنا الحالي، وبعد الثورة التقنية والصناعية الحديثة، أصبح مكيف الهواء، لا غنى عنه وكأنه من لوازم الحياة الضرورية، فصارت أجهزة التبريد تختلف بمسمياتها وتقنياتها في حين ما يزال البعض حريصاً على التكيف الصحراوي الخالي من غاز «الفريون» والمقتصر على المروحة والماء. وتظل المكيفات الحديثة «الجدارية» منها والمتنقلة، خاضعة لنمط البناء الحديث، حيث انحسر في زمننا الحاضر ما يُسمى «مُكيف الشباك» بدرجة كبيرة، لا سيما في المنازل والدور الحديثة، واستبداله بالمكيفات المركزية، ومكيفات «السبيلت»، وغيرها من المكيفات التي لها الأثر الكبير في التبريد وتلطيف الهواء. كل تلك الأصناف الحديثة، خضعت لعمليات سباق تقني رهيب، حتى صارت الأجواء الداخلية للمباني خاضعة لجهاز المُحكم «الريموت كنترول»، الذي يُتيح لنا خيارات التهوية والتبريد، من خلال قوة دفع الهواء والتبريد الرطب والجاف أو التسخين، ناهيك عن قياس درجة حرارة الغرف والمرونة في توزيع الهواء وتنقية الجو الداخلي، وهي تقنيات حديثة، اختصرت لنا معاناة الأجداد وبدايات قصة التكيف مع المناخ والتعايش مع الظروف المناخية القاسية، التي بدأت بملاقف الهواء، وانتهت بالمكيفات المركزية.