"أقسم إنني لم أقل إلا الحقيقة" بهذه العبارة يختم جلوب باشا الملقب "أبو حنيك" كتابه "أزمة الشرق الأوسط"، وفيه يدفع عن نفسه تهمة العمالة والتواطؤ مع الصهاينة. التي لاحقته سنينا طويلة إذ يواجه جلوب باشا اتهامات تاريخية أثناء نكبة 1948 حيث يتهم بسوء إدارة القوات (حيث جمعت تحت يده قيادة الجيوش العربية مجتمعة) مساعدة لليهود وهو ما يفسره إصراره على الموافقة على الهدنة الأولى التي تسببت في تقوية جبهة اليهود وإضعاف الجبهتين الأردنية والمصرية وحدوث حادثة الأسلحة الفاسدة الشهيرة ما أدى لخسارة العرب للحرب. السير جون باجوت جلوب (Sir John Bagot Glubb) المعروف باسم جلوب باشا ولقبه أبو حنيك (16 أبريل 1897 - 17 مارس 1986) ضابط بريطاني عرف بقيادته الجيش العربي الأردني بين العامين 1939 و1956. وتعود تسمية "أبو حنيك" ـ من قبل المحيطين به من العرب ـ نظرا لميل ملحوظ في حنكه الأسفل. وكان قد زاره فيها قبل وفاته الشيخ عبد العزيز التويجري حيث دار بينهما حوار طويل عن العرب أورده التويجري في كتابه رسائل أخاف عليها من الضياع. خدم جلوب باشا في فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم تم نقله إلى العراق عام 1920، حيث كان العراق تحت الانتداب البريطاني في ذلك الوقت. في العراق عمل على بناء علاقات مع القبائل ولعب دورا مهما في شكل العلاقات البريطانية - العربية في تلك المنطقة. قرار إعفاء جلوب وتعريب الجيش أثار ردود أفعال إعلامية وسياسية كبيرة في ذلك الوقت. درس في كلية تشلتنهام، وأصبح ضابطا في الجيش العربي عام 1930. وفي العام التالي أسس قوات البادية، وهي قوة مكونة من البدو بشكل حصري، وذلك للسيطرة على الأزمة التي أصابت جنوب البلاد. وفي سنوات قليلة استطاع أن يوقف الغزوات المتبادلة بين القبائل البدوية، وبسرعة أصبحت الأزمة شيئا من التاريخ. في عام 1939 خلف جلوب فريدريك جيرارد بيك في قيادة الجيش العربي الأردني، وفي تلك الفترة حول الجيش إلى أفضل قوة تدريبا في المنطقة العربية. بقي في منصب قيادة الجيش العربي الأردني حتى 2 آذار (مارس) 1956 حيث أعفاه الملك الحسين بن طلال بالتنسيق مع حركة الضباط الأحرار الأردنيين من مهامه في قرار تعريب قيادة الجيش العربي التاريخي. وكان هذا القرار بمنزلة صدمه للإمبراطورية البريطانية وأدى إلى تدهور العلاقات الأردنية مع بريطانيا وأمريكا وحلفائهما. بعد أن طرد من الأردن عام 1956، تقلد وسام رتبة الإمبراطورية البريطانية "رتبة فائقة الامتياز"، إلا إنه لم يعرف أنه تقلد أي وسام أردني. أمضى جلوب بقية حياته في كتابة الكتب والمقالات، التي كانت بمعظمها حول الشرق الأوسط وتجربته مع العرب. تلقى عام 1925 وسام القادة الفرسان. توفي جلوب باشا في إنجلترا في 17 آذار عام 1986، شارك الجيش الأردني في حفل تأبينه بعد وفاته. توفيت زوجته روزماري فوربز عام 2005، أما ابنه جودفري فقد تحول إلى الإسلام وغير اسمه إلى "فارس" وتوفي عام 2004 في حادث دهس بالكويت. ابنته ناومي توفيت عام 2010. حمل أبناؤه الجنسية الأردنية ودفنوا في عمان. من جهته، وثق المفكر عادل العوا كثيرا من مقالات ومشاهدات السير جلوب مترجما وجامعا إياها في كتاب "جلوب باشا .. جندي بين العرب". وفيه يسرد غلوب عديدا من الأحداث والمشاهدات والحوارات التاريخية. إذ يروي في إحدى مشاهداته قدومه صباحا للقاء الأمير عبد الله وتفاصيل تكليفه بمهمة قيادة الجيش العربي: "يقوم القصر الملكي في عمان فوق رابية تشرف على منازل المدينة المجموعة إلى بعضها البعض، المكدسة في واد ضيق عند أقدام الرابية. وتحيط بالقصر أشجار الصنوبر، من كل جانب. وقد قامت وراءه، في هدأة وادعة، على طرف الرابية، مقصورة من ثلاث غرف. وهنا، كان الأمير (الملك فيما بعد) عبد الله يحب أن يجلس ويعمل بمعزل عن الآخرين. في صباح يوم مشمس من أيام نيسان 1939، رحت أمشي في الحديقة الصغيرة تحت عريشة الدالية المفضية إلى باب المقصورة، وإذا بضابط يستقبلني ويقودني إلى باب ينفتح على مدخل البهو، قائلا: - سيدنا في انتظارك. كان الأمير عبد الله جالسا وراء مكتبه في مقره الخاص بالمقصورة. وقد أرسل في طلبي، على أثر استقالة الكولونيل (بيك) باشا الذي شغل منصب قيادة جيش الأمير، المعروف باسم (الفرقة العربية) لدى الإنجليز، منذ ظهرت دولة شرقي الأردن إلى الوجود، أي قبل سبع عشرة سنة وعينت بديلا عنه. وتراءى لي أنه مهتم بسفر (بيك) الذي خدمه طيلة تلك المدة. قال، وهو يشير إلي بالجلوس: (أنت إنجليزي، وهذا قطر عربي، وجيش عربي، وقبل أن تتسلم زمام القيادة، أريد أن تقطع على نفسك عهدا أمامي، أنك طالما كنت في هذا المنصب فإنك ستتصرف دائما كما لو كنت واحدا من أبناء شرقي الأردن، مولودا فيه). (إني أعرف أنك لا ترغب في مقاتلة مواطنيك، فإذا حدث أن وقع قتال بيننا وبين الإنجليز، فسأكون لك عاذرا، وسيكون في مقدورك أن تتركنا وتقف جانبا؛ ولكن إذا لم يحدث بإذن الله، شيء من ذلك، فإني أريدك أن تكون واحدا من أبناء شرقي الأردن). وكان أن أجبته: (سيدي! أعطيك كلمة الشرف: أنا من الآن فصاعدا (شرق أردني) إلا في الظروف التي ذكرتها، التي أرجو الله ألا تحدث أبدا). وعن الشرق الأوسط، وأهميته بالنسبة لبريطانيا تحديدا، وللقوى العالمية عموما، فيما يبدو استرسالا يخص به جلوب القارئ الغربي يكتب: "هو بالضبط، محور العالم القديم ومركزه، تمر به أقدم طرق التجارة العالمية وأحفلها بالأعمال، ويصل أوروبا وشمال أفريقيا بآسيا، كما يربط جنوب إفريقيا بمناطق الجنوب الآسيوي في أستراليا وجوارها. وهو يؤثر في أوروبا وإفريقيا وآسيا، كما يتأثر بها، وهو أيضا الجسر البري الأوحد إلى البر الإفريقي، وعلى أرضه ترعرعت الديانات الكبرى الثلاث: اليهودية والإسلام والمسيحية. وهو، لأنه اليوم بلد مسلم في المنزلة الأولى، تثير شؤونه اهتماما حارا لدى جميع المسلمين، أنى وجدوا، من مراكش ونيجيريا إلى الصين والملايو. وليست بريطانيا هي التي كانت أول من اخترع أو فتح هذا (الممر) للتجارة، فقد تقاتل عليه أهل روما وفارس في العصور الأولى، وكان عظيم الأهمية في تلك الأزمنة كما هو اليوم. وينبغي لنا ألا نتصور أن هذه التجارة تفيد أوروبا وحدها، وبريطانيا أكثر من غيرها، فالتجارة دوما ذات طريقين، وأن أقطار آسيا الجنوبية، وأستراليا والشرق الأقصى تنال من الفوائد ما لا يقل عما تناله أوروبا. قد يبدو أن الطموحات السياسية والعصبيات تطغى، لزمن يطول أو يقصر، على العوامل الاقتصادية، ولكن هذه العوامل تعود فتؤكد مكانتها عاجلا أو آجلا".