أنطوان جوكي-باريس طفولة تركية هو عنوان كتاب صدر حديثا عن دار بلو أوتور الباريسية وشارك فيه 33 كاتبا تركيًّا بمعدل نص لكل واحد منهم يتحدث فيه عن طفولته في تركيا. القاسم المشترك بين هؤلاء الكتاب الذين ولدوا جميعا في القرن العشرين هو ميلهم طبعا إلى الكتابة، ولكن أيضا مواقفهم في مسألتي الحرية والديمقراطية في بلدهم. ما عدا ذلك كل شيء يفرقهم، أعمارهم التي أملت عملية ترتيب نصوصهم في هذا الكتاب، ومكان ولادتهم الذي يتراوح بين إسطنبول وماردين وإسكيشهر ونوردلينغن وباليكشير وباريس، وعيشهم بعيدا أو قريبا من مكان الولادة، وأصولهم الأناضولية أو العربية أو الكردية أو الأرمنية أو البلقانية أو اليهودية، وانتماؤهم إلى مختلف الديانات السماوية. مسارات متعددة لكل من هؤلاء الكتاب طفولته الخاصة أيضا، القروية أو المدينية، الهانئة أو العاصفة، التي يسردها أو يحاول على الأقل سردها، لأن الطفولة أيضا -باعتبارها أرضية لا نسكنها أبدا- تفلت دائما منا. لكل واحد منهم لغته أو لغاته، بما أن بعضهم ولد بين لغتين أو أكثر وتعلم بنفسه لغات أخرى، علما بأننا لا نتعلم أبدا أن نعبر عن أنفسنا إلا بلغة الآخر، بما في ذلك اللغة الأم، كما تذكّرنا الكاتبة معدة الكتاب إيليف دينيز. باختصار، نجد أنفسنا داخل هذه السرديات في عمق الحميمي الذي يسمح على أفضل وجه بتلمس عمق تركيا الحديثة، منذ الثلاثينيات حتى الثمانينيات، تركيا الممزقة بين شرق وغرب، بين تقليد وحداثة، بين انفتاح وانغلاق، بين سلام وحروب. وفعلا، ينير هذا البلد الذي يرتسم تحت أنظارنا نصا بعد نص تركيا اليوم التي تبدو متعددة وفي حركة دائمة، أكثر رخاء لكن أقل علمانية، ودائما معرضة لرياح التاريخ العنيفة، كما ينير منطقتنا وعالمنا حيث تحتل تركيا موقعا مهما. وإذ يتعذر هنا التوقف عند جميع النصوص التي يتألف منها الكتاب، نشير إلى تفاوت قيمتها على مستويي الشكل والمضمون. ومن الشهادات الجميلة التي نستمتع بقراءتها، سردية سيدا هارون التي تستحضر فيها بطرافة ظروف ولادتها في منزل يعج بالنساء، ثم ظروف ولادة الديوان الأول لوالدها الشاعر أوزديمير عساف الذي حثها على كتابة الشعر قبل أن يرحل عن هذه الدنيا، تاركا لها تلك الرسالة الرائعة التي كتبها لأمها عام 1949 وذكرى عينيه الضاحكتين. ذكريات الماضي وتشدنا أيضا سردية نديم غورسيل التي يسرد فيها أحداث وانطباعات يومه الأول في ثانوية غلطة سراي الشهيرة بإسطنبول، حيث كان تلميذا داخليا، ثم يتذكر رفاق صفه وأساتذته، متوقفا عند لقب كل واحد منهم الذي كان يعكس طبعه أو جانبا من مظهره، وعند الأيام الجميلة التي أمضاها معهم في تلك المدرسة قبل أن يفرقهم الزمن. ولا يقل نص أنيس باتور أهمية، حيث يستحضر ذكرى جدتيه، والدة أبيه التي فقدت زوجها باكرا وصرفت أموالها على صحتها وشكلت بالنسبة إلى حفيدها الكائن الأكثر عزلة حوله، ووالدة أمه الألبانية، صاحبة المزاج الصعب، التي ترملت أيضا باكرا ولم تحب أيا من أحفادها باستثناء باتور نفسه الذي أمضى وقتا طويلا معها في طفولته وندم لاحقا لعدم سفره معها إلى وطنها الأم الذي بقيت تتكلم لغته حتى وفاتها، ولم تتكلم التركية إلا بشكل قليل. من جهتها، تعود أيفير تونش في سرديتها إلى مرحلة من طفولتها كانت تقطن فيها مع عائلتها واحدا من المنازل الثلاثة الفقيرة التي كانت تطل على ساحة صغيرة في إسطنبول، وذلك لاستحضار بطرافة لافتة طقوس يوم الغسيل الذي كان يجمع نساء هذه المنازل، ولكشف -من خلال حواراتهن-العنصرية التي كانت وما زالت متفشية في المجتمع التركي تجاه الأقليات غير التركية في وطنها. أما يغيت بينير فيمنحنا نصا جميلا حول الصفعة التي تلقاها في سن السادسة من والده أثناء سفرهم بالسيارة من باريس إلى أنقرة عام 1964. ولأن هذه الصفعة شكلت فاتحة طفولته في تركيا، نجده لم ينس الظروف التي دفعت والده الدبلوماسي إلى توجيهها له، ولا ظروف جمهورية العسكر التي اختبر مكرها أثناء طفولته وأجبرته على التوقف عن طرح تلك الأسئلة المزعجة التي لطالما شجعه والده على طرحها.