لو التفتّ حولك في المنطقة، باحثًا عن عدد الدول المتماسكة، مقابل الدول الهشّة والمريضة ستهولك نسبة الخراب من حولك. دول الخليج على رأس الدول المتماسكة التي حافظت على كيانها وهيكلها ومؤسساتها من الخراب والعطل والشّوَه، على الرغم من كل السموم والتحديات التي طغت على المشهد خلال السنوات المظلمة الماضية، سنوات التيه والدم والظلام. في السعودية منذ بدء التأسيس على يد الملك عبد العزيز كانت لفظة «الدولة» حاضرةً في خطاباته وتصوّره ومشاريعه، لم تكن الدولة تعبّر فقط عن تسمية سياسية، بقدر ما كانت تنوي في عمقها بناء مؤسسات ضامنة لتماسك الدولة مهما مرّت وتعاقبت السنون. إنه مفهوم الدولة الذي ينضج علميًا ونظريًا وفلسفيًا مع تقادم السنين وتعاقبها. برهنت أحداث التاريخ على أن الجماعات التي حاولت زعزعة الاستقرار قوبلت بالسحق التام الضروري، لأنها تهدد كيان الدولة مهما كانت الشعارات التي تستخدمها، منذ معركة «السبلة» وحتى معركة السعودية ضد كل التنظيمات التي جرّمتها وحزمت أمرها ضدها. هذا هو القصد «حماية مفهوم الدولة». تسود الدولة حين يقتنع المجتمع، أي مجتمع، بأن الأمر لا يتعلق بالوفاق التام، أو الاشتراط الفردي الهزيل، أو التطلّب الطفولي، وإنما - كما يصف ذلك توماس هوبز - حين تتم الوحدة الفعلية للجميع ضمن الشخص الذي وضعت الجموع إرادتها في إرادته، وعند القيام بذلك يصبح الجمهور موحدًا في شخص إنسان واحد نسميه «دولة». لهذا وبفضل تلك السلطة التي يعطيها كل فردٍ للدولة، يمتلك الحاكم قدرة هائلة وقوة مجتمعتين فيه، بحيث يمكنه اعتمادًا على الرعب، الذي يلهم القدرة والقوة، أن يخضع إرادة الجميع بغية تحقيق السلم الداخلي والتعاون في مواجهة الأعداء الخارجيين، هذا هو المفهوم الهوبزي الذي نحتاجه أكثر، ذلك أنه كتب في ظلّ الحرب الأهلية الإنجليزية في القرن السابع عشر، وهو أقرب إلى حال العرب اليوم؛ إذ تسود الذئبية وعقلية الغاب، وتفجير القبور والمطاعم، والاستهتار بمؤسسات الدولة، وهو نصّ أقرب إلى حاجتنا من تفسيرات تاليةٍ أُسست لنظم مجتمع «متجاوز» ومستوعب لدروسٍ قد مضت، يكتب هوبز «إن المؤتمن على هؤلاء الأشخاص يسمى الملك أو الحاكم الأسمى يتمتع بقدرةٍ ذات سيادة». إنها الدولة ذات السيادة ودور الشخص المؤتمن فيها، وبخاصة في سنوات النزاع والصراع، وضمن تحديات المحيط. حين تتعرض الدولة إلى التهديد يجب عليها استعمال العنف المشروع، وتفعيل القوّة في هذا السياق، ولعلّ الأسبوع الماضي شهد مقارنةً بين الخطاب الحربي لجورج بوش عقب أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، وخطاب فرنسوا هولاند بعد أحداث 13 نوفمبر (تشرين الثاني)، الأمر الذي جعل يورغن هابرماس يعلّق في حوارٍ له مع «لوموند» في 21 نوفمبر الحالي محذّرًا من المساس بالمجتمع المفتوح ومسار التسامح وفضاء الحوار الذي عرفت به فرنسا في ظلّ تصاعد صوت «الجبهة الوطنية» اليميني، هذه مهمّة من أسس شروط الدولة الحديثة. لا بد من استخدام العنف المشروع ضد الإرهاب المنظّم؛ لأن ذلك من صميم عمل الدولة. بالطبع بعض الذين يعيشون القلق تجاه فهم مستوى «الدولة» بالصيغة القوية هذه يعتبرون أي إجراء حدد ضد تشويه منظّم ضد الواقع والمجتمع ومؤسسات الدولة هو «تسلط» واستعراض للقوة غير مبرر، هذه نبرة تسمع في بعض المقولات الآيديولوجية. نعود بهذه الجزئية بالطبع إلى ماكس فيبر؛ إذ «لا يمكن للدولة أن توجد إلا شريطة خضوع الناس المسيطر عليهم لنفوذ السلطة التي يطالب بها المسيطرون على الدوام.. من البديهي أن هناك في الواقع أسبابًا قوية يحكمها الخوف أو الأمل هي التي تشترط خضوع الرعايا». واحتكار العنف بدأ في الدولة الحديثة منذ أواخر القرن الثامن عشر بحسب إريك فايل، وهو الاحتكار الذي من خلاله نميّز الدولة الحديثة التي هي دولة الحق والقانون، وتسنّ وتعمم القوانين، و«تنظّم استعمال العنف بواسطة القانون». إن الفكرة الأساسية في تمتين هذا المفهوم العتيد ضمن تجارب الأمم وشروطها وظروفها المعيشة، فالدول تشبه الناس، وتكبر معهم تبعًا لتحدياتٍ تجرفهم أو تهددهم، وليس سرًا أن جميع الدول في العالم الآن، وبخاصة منها تلك النفطية السابحة في الخير والنعمة، والأوروبية المبتهجة بالنور والشمس تحارب وتصارع، ذلك أن الإرهاب والظلام سيستمر في استهداف هذين النموذجين المتماسكين بعد طول محاولاتٍ بدأت منذ أوائل التسعينات الميلادية، ولن يكون هناك تماسك إلا بالاستمرار في صقل مفهوم الدولة وحراسة الحدود، والضرب باللسان والسنان ضد أي مساسٍ محتمل، وترسيخ ثقافة الضربات الاستباقية فكريًا وأمنيًا، مثل الذي فعلته السعودية ضد المتمرّدين في اليمن، وضد الإرهاب في أصقاع الأرض، هي معركة شرسة، قوامها حراسة هذا المعنى العميق للدولة، المعنى الذي نحتاجه، بالسيادة من جهة، والسلطة المشروعة الضابطة من جهةٍ أخرى، وهذا لا يلغي بتاتًا صيغ الإرادة، ومفاهيم الحق، وشخصية الفرد، وأبجدية الحق، غير أن فعالية السيادة تكون لها الأولوية على ترف الإرادة في ظلّ تحدياتٍ تعاش، ودمارٍ في المحيط يرى كل يوم، من دول ماتت وبادت، وأخرى تعيش مرضها المزمن وهشاشتها الضاغطة. ستغرق مدن بالدم والظلام، وقد تنهض. والمعركة في بدئها، بمزيد من النور تحترق الخفافيش، ولبودلير شاعر «أزهار الشرّ»: «ويغفو العالم في النور الدافئ، كل شيء هناك سيكون نظامًا وجمالاً.. وترفًا وسكينة ومتعة».