أنهت موريتانيا ودول الساحل فجر أول أمس الثلاثاء (24/11/2015) أيام الحداد على ضحايا أحدث عملية إرهابية بمنطقة الساحل، راح ضحيتها 27 قتيلاً في فندق راديسون بلو، وسط العاصمة المالية باماكو. قيل وكتب الكثير عن العملية التي حملت توقيع الفرع المغاربي للقاعدة، وذلك في سياقات عدة أبرزها أحداث تفجيرات باريس، والتنافس من جهة بين التنظيمات الإرهابية (داعش والقاعدة). في محاضرته يوم الجمعة الماضي أمام حلف شمال الأطلسي في العاصمة البلجيكية ببروكسل، والتي حملت عنوان الاستراتيجية الإفريقية لمواجهة الإرهاب، قال الرئيس الموريتاني الأسبق العقيد أعلي ولد محمد فال إنه يستحيل على القارة الإفريقية أن تواجه منفردة التهديدات والتحديات الأمنية الخطرة التي تتعرض لها في الوقت الراهن. وقال ولد فال إنه يجب قيام تحالف قاري ضد الإرهاب، وخاصة بين إفريقيا وأوروبا التي تعد الضحية الثانية لهذه التهديدات. وخلص إلى أن هذا الوضع مهد لاستفحال الإرهاب في القارة إلى درجة غير مسبوقة جعلت الحركات المتطرفة تخطط لقلب الأنظمة والاستيلاء على مقاليد السلطة: بدأت تلك المحاولات في الجزائر حيث تم إحباطها، ومنعت في مالي ونجحت في الصومال. أشار ولد فال إلى تحد آخر هو انعدام الثقة بين الدول المتجاورة. وطرد الاستثمارات بفعل عدم الاستقرار السياسي. ولد فال أكد أن الإرهاب الذي تحول في ظل التراخي الدولي في مواجهته إلى عدو لا نمطي عابر للقارات ولا يعرف الحدود، قد يتطور إلى ما لا تحمد عقباه في ظل النزاعات المسلحة والحروب بين دول الجوار وحتى داخل البلد الواحد والتي غالباً ما تنتهي بتفقير الشعوب وانتشار الأسلحة بين أفرادها مما يضيف مشاكل أمنية جديدة قد تتجاوز الحرب نفسها. وأكد الرجل الذي أمضى عشرين عاماً مديراً للأمن العام في بلاده، أنه ما لم تعالج قضية الإرهاب في إفريقيا فإنه سيتم تصديره لتدمير مرتكزات السلم والأمن في أوروبا والعالم. وقدم ولد فال أمام مسؤولي حلف الأطلسي ثلاث نقاط رأى أنها ضرورية لاستئصال الإرهاب وتجفيف منابعه في القارة الإفريقية، وتتلخص في مثلث الفكر، التنمية، القوة. إلى هنا، يمكن القول إن المقاربة التي قدمها الرئيس الموريتاني الأسبق العقيد أعلي ولد محمد فال هي مقاربة نموذجية جرى تلخيصها من عشرات الدراسات والمحاضرات، وحتى مقالات الرأي المنشورة على مدى أكثر من عقدين من الزمن، أي منذ أن تأسس الإرهاب في فاتحة ما عرف لاحقاً بعشرية الدم في الجزائر. ولكن، وحتى أحداث راديسون بلو، يوم الجمعة الماضي، من الغريب أن الثغرات ما تزال هي ذاتها، رغم كل المنظمات والمليارات التي أنفقت لمواجهة الإرهاب، ورغم كل التعهدات بوضع مواجهة الإرهاب أولوية وطنية وإقليمية ودولية. لا جديد مطلقاً، لا في الشكل ولا الأسلوب، هذا على مستوى الضحية (الدولة الوطنية والسلم الدولي)، أما على مستوى محور الإرهاب فثمة تطور كبير وخطر، فإن الحرب الباردة بين القوتين الإرهابيتين العظميين داعش والقاعدة، بدأت تفضح التقصير الفكري والمادي في مواجهة آفة الإرهاب، بقدر ما كشفت أن دروس مكافحة الإرهاب كانت تلقى على مسامع تماثيل. لنعد قليلاً إلى أحداث فندق راديسون بلو.. من المؤكد ما أورده المحللون من أنها ضربة للقاعدة ترفع من خلالها ورقة مقابل ورقة داعش في تفجيرات باريس. ومن شبه المؤكد أيضاً أنها محاولة لتشتيت الانتباه وإنهاك القوى الكبرى وجهود مكافحة الإرهاب، إلى جانب عشرات الرسائل الأخرى عن الوضع الداخلي للفرع المغاربي للقاعدة، ومحاولة التنظيم تأكيد قدرته على توجيه ضرباته في عمق أي دولة، خاصة وأن التنافس بين دواعش إفريقيا وقواعدها مرشح لتطور كبير خلال الفترة القادمة في ظل الوضع في ليبيا، والتطورات الميدانية في محور نيجيريا، النيجر، تشاد. لكن أحداث فندق راديسون بلو.. تسلط الضوء على الجانب المرفوض التطبيق في استراتيجية مكافحة الإرهاب من طرف حكومات وأنظمة المنطقة.. يتجلى ذلك في: أولاً: أن دول المنطقة ترفض تجاوز حالة العداء التقليدي والتنافس السلبي بينها، وهو عامل مهم وتأثيره خطر جداً، فما تزال أغلب دول الساحل تحتضن معارضي أنظمة جيرانها، وتمولهم وتقدم لهم المساعدة، بل وتساعدهم في التخطيط للإطاحة بأنظمة بلدانهم وإثارة القلاقل داخلها (أحداث بوركينافاسو نموذجاً). ولا تزال بعض الأنظمة في غرب إفريقيا غائبة عن الصورة المفزعة المحيط بها، حتى إن تقارير سرية في نواكشوط تكشف أن بعض المجموعات الإرهابية تتزود بالمؤن والبنزين وتبيت في ضيافة قواعد عسكرية لبلد ما وهي في طريقها لتنفيذ عملية عسكرية في بلد مجاور. إن التقارير السرية لأول عمليات عسكرية خارجية ضد الفرع المغاربي للقاعدة (عمليات حاسي سيدي في إقليم أزواد - 2010)، والتي قام بها الجيش الموريتاني، كشفت لوزارتي الدفاع الأمريكية والفرنسية المدى الذي تخدم به عداوة الجيران في غرب إفريقيا المجموعات الإرهابية. لقد استغلت المجموعات الإرهابية هذه العداوة وهذا التنافس واللاثقة بين أنظمة ودول المنطقة من أجل تنفيذ مخططاتها، بل والحصول على نقاط ضعف المنظومات الأمنية لدول الجوار. ثانياً: إن اتفاقيات السلام بين المكونات العرقية لدول غرب إفريقيا، لا تزال حبراً على ورق. فمثلاً، لقد ذهبت جهود المجتمع الدولي سدى، ولم يطبق بند واحد من اتفاق السلام في شمال مالي، والموقع بوساطة جزائرية أممية في يونيو الماضي. لقد دفع ذلك الأقليات المطحونة إلى إبقاء مناطقها ملاذات آمنة للمجموعات المتطرفة. ومن المؤكد أن تصريحات قادة حركات تحرير أزواد، التي اكتوت هي الأخرى بجحيم القاعدة، لم تجد أي صدى لها، حتى حين آزرها الرئيس الموريتاني محمد ولد عبدالعزيز سياسياً وإعلامياً، عندما امتلك الشجاعة للخروج بتصريحات علنية أكد فيها استحالة هزيمة الإرهاب دون تسوية سياسية مع سكان الشمال المالي. لقد أقدم الرئيس الموريتاني على هذه الخطوة، حين نجحت مخاطرته بالتنقل بين باماكو وتيمبكتو من أجل نزع فتيل الحرب بين الجيش المالي وقوات الطوارق عام 2014. ثالثاً: التجمعات الإقليمية التي أقيمت للتعاون في مواجهة الإرهاب، كتجمع دول الساحل، ودول الميدان، هذه التجمعات على أهميتها، وعلى النتائج الإيجابية لأدوارها، من الغريب أنها لا تزالُ تعاني نواقص خطرة في التنسيق البيني حتى في تبادل المعلومات الأمنية. نكتشف ذلك حين نعلم أن حجم تبادل المعلومات الأمنية بين أجهزة هذه الدول لا يتجاوز 5% (معلومات ذات أهمية عادية)، ولكن هذه الدول تحصل على المعلومات الاستخباراتية المهمة لبعضها البعض عبر قناة الوسيط الغربي، فرنسا أو أمريكا غالباً. وقد كشفت إشارات عن أن إعاقة تبادل المعلومات الاستخبارية بين دولتين في المنطقة سهل نجاح القاعدة في تنفيذ عملية راديسون بلو.. وأيضاً يخشى أن هذه التجمعات لم تضع آلية ضامنة لعدم توجيه أموال مكافحة الإرهاب إلى وجهات أخرى. رابعاً: إن عملية راديسون بلو، وإن كشفت أن التنظيمات الإرهابية اخترقت المزيد من الأعراق الزنجية من قبائل الفولان، والسونغاي، والكانوري، والهوسا، وما يخلقه ذلك من عبء أمني، فإن ذات العملية ستمهد ولا شك لفصل جديد من التنافس ليس داخل القيادات التي اشتهرت كرموز للجماعات الإسلامية المتطرفة، بل بين تلك الرموز والأجيال الشابة المتعطشة للقيادة، والتي تسعى كل يوم لابتكار أساليب جديدة لتنفيذ عملياتها. هكذا يكون العبء الأمني لدول غرب إفريقيا قد ازداد على كاهل أجهزة عرفت بترهلها واحتفاظها بكل سلبيات البيروقراطية. خامساً: إن محللين مطلعين يرون أن فرنسا هولاند ترتكب أخطاء قاتلة بإصرارها على تنصيب شركاء استراتيجيين في منطقة الساحل، لم يقوموا بأي دور، على حساب من ضحوا بجيوشهم وإمكاناتهم اللوجستية وكانوا رأس حربة من أجل مواجهة الإرهاب في غرب إفريقيا، وفي هذا الساحل المشتعل بسبب تحالف الأخطاء الداخلية والخارجية. إن ذلك فتح جرحاً إقليمياً من الصعب أن يندمل، وكشف عن آراء متباينة حد التناقض بين الاستراتيجية العربية (الجزائر وموريتانيا) والاستراتيجية الإفريقية (مالي وآخرين) إزاء سبل مواجهة الإرهاب، وخاصة معالجة المشكل من جذوره.. إذ المعارك التي ننتصر فيها من دون تضحيات هي ألعاب، وليست الحرب على الإرهاب.