وجد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في الهجمات الإرهابية التي نفذها تنظيم داعش في باريس فرصة لإدراج نفسه بين متلقي العزاء من أهالي الضحايا، معتبراً أن ما عانوه من داعش هو ما يعانيه من الفلسطينيين. بل وصلت الوقاحة به وبالناطقين باسمه إلى اعتبار تنظيمات المقاومة الفلسطينية خصوصاً الإسلامية منها، هي تنظيمات داعش المحلية وأن الإرهاب واحد. من الواقعي القول إن أحداً جدياً في الأسرة الدولية، ولا حتى بين العاقلين في إسرائيل، أخذ كلام نتنياهو على محمل الجد، لأن الفارق هائل بين شعب يناضل من أجل حقه في تقرير المصير وبين جماعات إرهابية لا غاية لها سوى القتل والثأر. ولكن من المنطقي الافتراض أن تجرؤ نتنياهو على أن ينصب نفسه ودولته ضمن الضحايا، وتناسي كل مظاهر بطشه واعتداءاته وسلبه للحقوق، يعود إلى قناعته بأن الأسرة الدولية تتغافل فعلياً عن أفعاله ولا تعاقبه عليها. وبعيداً عن التاريخ الطويل لاعتداءات إسرائيل واغتصابها للأرض ومصادرتها لمستقبل شعب، يمكن ملاحظة أن الهبة الشعبية الفلسطينية التي تدخل شهرها الثالث، وهي في الأصل حلقة في مسلسل الهبات والانتفاضات المديدة، تمر من دون ردات فعل دولية على أفعال إسرائيل. وأمام الجميع يرى العالم كيف أن الحكومة الإسرائيلية ساهمت في بث الذعر في صفوف جمهورها على أمل أن يعزز ذلك منطق الكراهية ويسهم في منع التوصل إلى تسوية. وما سماح الحكومة الإسرائيلية لمواطنيها بحمل أسلحتهم الشخصية واستخدامها داخل الخط الأخضر إلا تعميقاً لسلوكيات الغرب المتوحش ضد كل ما هو عربي. ولم يردع الحكومة الإسرائيلية عن موقفها هذا حتى سقوط ضحايا يهود جراء شك يهود آخرين بأنهم عرب وهو ما حدث مراراً. ومن المعروف أن ميل الحكومة الإسرائيلية هذا هو استمرار لميلها في التغاضي أصلاً عن الاعتداءات التي يشنها المستوطنون على القرى والمدن الفلسطينية لسبب ومن دون سبب. ورأى العالم بأسره كيف أن حرق عائلة الدوابشة في دوما مر من دون أي تحرك فعلي من جانب السلطات الإسرائيلية ضد المنفذين، رغم إعلان وزير الدفاع موشي يعلون أنهم معروفون لأجهزته الأمنية. وتقريباً هذا حال كل الاعتداءات التي ينفذها أعضاء منظمات إرهابية يهودية، أمثال جماعة تدفيع الثمن ولهفا وحتى من بقي من أنصار الحاخام كهانا الذين صار بعضهم جزءاً من تنظيمات تندرج في الائتلاف الحاكم. ويعرف كثيرون أن إسرائيل تتباهى بقدراتها الأمنية وبأنها تعرف تقريباً كل ما يجري في الجانب الفلسطيني إلا ما ندر. وليس صدفة أن الأسلوب الذي تنتهجه إسرائيل في مواجهة الفلسطينيين ينبع من تلك النظرة القائلة بالردع. وهذا ما تجلى في تقرير أجهزة الأمن الإسرائيلية الذي عرض على حكومة نتنياهو في الأسبوع الماضي، والذي أشار إلى نجاح في تحييد منفذي العمليات من الفلسطينيين بنسبة 94 في المئة. ويقول التقرير إنه من بين حوالي مئة شخص هاجموا في الشهرين الأخيرين إسرائيليين تقريباً تمت تصفيتهم أو اعتقالهم جميعاً. واعترف مسؤول سياسي بأن الرسالة لقوات الأمن في الميدان كانت صائبة واستوعبت جيداً. والرسالة انتقلت أيضاً للجانب الآخر، حيث فهموا أنه يستحيل تحقيق إنجاز وأن كل من يحاول المس بيهودي يعرض نفسه للخطر. وفي هذا السياق أقر المسؤول الإسرائيلي أيضاً بأنه أعطيت الحرية للقوات بعمل كل ما يلزم لملاحقة من أفلتوا، وهكذا جرت ملاحقة مطلوبين حتى في داخل المستشفيات بهدف إيصال الرسالة. ولم يخف رئيس الحكومة الإسرائيلية نفسه رسالة من نوع آخر يريد إيصالها وأساسها أن استمرار سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية وليس أي تسوية أو وجود أي قوات أخرى هو ما يسمح لها بمواصلة التصرف على هذا النحو وتأمين أرواح الإسرائيليين. وقال في أكثر من مؤتمر إنه إذا كان الخيار عندنا هو بين أن نحيا على حرابنا و نحيا وسيف إسلامي مسلط على رقابنا، فإننا نختار الخيار الأول...ونحن لسنا مذنبين بالإرهاب الموجه ضدنا، بالضبط مثلما أن مواطني فرنسا ليسوا مذنبين بالإرهاب الموجه ضدهم. وفي مؤتمر دبلوماسي نظمته صحيفة جروزليم بوست في القدس المحتلة قال نتنياهو صراحة مخاطباً الأوروبيين إنه لا فارق البتة بين الإرهابيين الفلسطينيين وبين المسلمين المتطرفين في أوروبا. ودعا ما أسماها بالقوى المتحضرة للاتحاد من أجل إلحاق الهزيمة بهذه الحيوانات البربرية.!! وهكذا لم يكن غريباً أن تكتب الصحفية عميرة هاس في هآرتس أن إسرائيل بحكومتها وجيشها وقضاتها تقوم بالانتقام من الفلسطينيين. وأشارت إلى قرار المحكمة العليا الذي أجاز هدم بيوت من تتهمهم إسرائيل بتنفيذ عمليات رغم أن الأسلوب معهود منذ بداية الاحتلال ولم يردع أحداً. وأشارت إلى أن القضاة والضباط، على حد سواء، يعملون وفق توجيهات المستوى السياسي ويهرعون لإرضائه. وكانت هاس قد نشرت تحقيقاً نقلت فيه اتهامات الكثير من الفلسطينيين للقوات الإسرائيلية بقتل فلسطينيين من دون مبرر بدعوى أنهم حاولوا طعن إسرائيليين وقولهم إن إسرائيل كانت تضع السكاكين بجوار جثث بعضهم. ونقلت عن ضابط شرطة ياباني يزور إسرائيل قوله: أنا لا أفهم ما يجري، إذا طعن أحد شرطياً عندنا نحن نمسك يده ونعتقله، لا نقتله، لماذا الأمر مختلف في إسرائيل؟ وأضافت: كيف يمكن الإجابة؟ أن الأوامر للشرطي أو الجندي عندنا هي أن يقتل من يحمل سكيناً على بعد مترين، أو إذا كان السكين في الحقيبة، أو شيء يشبه السكين في الجيب؟ والواقع أن كل السلوكيات الرسمية والشعبية والتنظيمية الإسرائيلية في التعاطي مع الفلسطيني تنطلق من دوافع فاشية واضحة. ولكن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تحاول طوال الوقت إظهار أن كل هذه السلوكيات ليست إلا نتاج واقع لا يمكن لإسرائيل أن تبقى من دون استخدامه. وهي لا ترى أن هذه سلوكيات فاشية بل تراها تطويراً لمبدأ دفاع الديمقراطية عن نفسها. وقد أصابت الفرحة المختلطة بالشماتة الكثير من الإسرائيليين الذين باتوا، بعد تفجيرات باريس، ينصحون الأوروبيين بانتهاج أساليب إسرائيل، وهم يريدون منهم فعلاً تفهم سلوكياتهم. وكأنهم يقولون إنه لا يصح مع العرب خصوصاً والمسلمين عموماً غير الأساليب التي تتبعها إسرائيل بفعل الاضطرار لا الرغبة. فدعوة اليمين إلى دولة يهودية يعني إلغاء مبدأ المساواة بين المواطنين ومنح الأفضلية لليهود. وحسب كثيرين فإن هذا حلم نتنياهو الذي في الانتخابات الأخيرة أبدى تخوفه من اندفاع الناخبين العرب إلى صناديق الاقتراع. وهو أيضاً حلم لا يخفيه أفيغدور ليبرمان ولا نفتالي بينت ولا حزبيهما أو التيارين اللذين يمثلانهما. وربما لهذا السبب نجد حتى بين الليبراليين الإسرائيليين من يرفض مثل هذه الفكرة المحركة لسلوكيات نجد ترجمتها يومياً في قتل وتنكيل وقمع واضطهاد. ورغم أن حجة الغرب في تشكيل ائتلافاته الحربية للتدخل في عدد من الدول العربية كان السعي إما للقضاء على الاستبداد أو الحكم الفاشي أو الإرهاب إلا أن هذا لا يجد أي ترجمة له عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. والسويد كانت الوحيدة بين الدول الأوروبية التي حاولت أن تقول كلمة حق مؤخراً، حينما ربطت بين تفجيرات باريس والاحتلال الإسرائيلي. وطبعاً كانت الحملة شديدة على وزيرة خارجية السويد، وليس فقط من إسرائيل وحكومتها. فأمريكا لا يطيب لها، من وجهة نظر سياسية، أن يقال مثل هذا الكلام رغم أن العديد من الساسة الأمريكيين يقولونه في الغرف المغلقة. عموماً تبدو الحركة الدولية بطيئة جداً ومبالغة في تسامحها مع الانتهاكات الإسرائيلية الفظة لحقوق الفلسطينيين الأساسية ولمواثيق الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية. وتكفي إشارة إلى الهجمات التي باتت إسرائيل تشنها على المستشفيات فتخطف جرحى من داخلها وتقتل آخرين في غرفها من دون أن تحسب حساباً للأسرة الدولية. ولا يخفف من وقاحة السلوكيات الإسرائيلية قدوم وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى المنطقة لمواصلة ما كان بدأ في واشنطن بلقاء نتنياهو بالرئيس باراك أوباما. وواضح أن أحداً لا يتوقع حدوث أي اختراق لأن كيري تنازل عن رؤيته بتحقيق اختراق وصار يتطلع فقط لمنع الانفجار عبر خطوات تدريجية وغالبها اقتصادي. أما عن التحركات في الأمم المتحدة، فإنها بسبب الضغط الأمريكي تتباطأ وازداد هذا الميل فيها بسبب الانشغال العالمي بتفجيرات باريس وعواقب حملات داعش في أوروبا والحرب عليه في سوريا والعراق. وفي هذه الأثناء تستشعر إسرائيل الرضى لأنها تكسب مزيداً من الوقت الذي يسمح لها بتكريس جملة وقائع جديدة على الأرض بعضها استيطاني. ولكن من الجلي أن الهبة الشعبية الفلسطينية لا تأخذ بالحسبان أي شيء سوى رفض سياسة إسرائيل بتكريس الأمر الواقع ودوام الاحتلال. وهي تتحرك فقط وفق هذا المبدأ من دون انتظار مساندة أجنبية. حلمي موسى helmi9@gmail.com