في تقاليد النقد السينمائي، أن الفيلم ينسب، أول ما ينسب إلى مخرجه أو إلى نجومه. لكن هناك استثناءات ذات دلالة منها أن ينسب الفيلم الى مؤلفه، أي الى من كتب له السيناريو وربما الحوار أيضاً. ومن المؤكد أن الفيلم الفرنسي «أطفال الجنة» فيلم من هذا النوع، حتى وإن كان مخرجه واحداً من كبار كلاسيكيي السينما الفرنسية، مارسيل كارنيه. فالحال ان هذا الفيلم غالباً ما ارتبط باسم الشاعر جاك بريفير، ولا سيما منذ رشح في العام 1947 في هوليوود، لأوسكار أفضل سيناريو كتب أصلاً للسينما، فكان بذلك واحداً من الأفلام النادرة غير الأميركية وغير الناطقة بالأنغلوساكسونية التي ترشح لتلك الجائزة. ولئن أخفق «أطفال الجنة» يومها بالفوز، فإن خلوده ارتبط دائماً بحواراته وقصته وأجوائه إلى درجة ان اليونسكو صنفته ضمن التراث الإنساني. ولا بد أن نذكر هنا أيضاً ان هذا الفيلم الذي اختير في العام 1995 لمناسبة مئوية السينما بوصفه أفضل فيلم في تاريخها، عُرف أيضاً بالأقوال العديدة والعبارات المأثورة التي استعيرت منه لتقال في مناسبات عديدة ما أكد مكانة جاك بريفير كواحد من أكثر الشعراء شعبية في التاريخ الأدبي الفرنسي الحديث. فمن هو جاك بريفير وكيف صنع له هذا الفيلم مكانة إضافية الى تلك التي صنعها له شعره وكتاباته الأخرى؟ > لو أتيح لشاعرنا العربي نزار قباني ان يخوض غمار العمل السينمائي، ولو لمرة واحدة في حياته، ككاتب سيناريو، لكانت اكتملت وجوه الشبه العديدة بينه وبين جاك بريفير. علماً أن الكثيرين من النقاد الذين اطلعوا على اعمال نزار قباني وهم على معرفة بأعمال الشاعر الفرنسي، لم يفتهم ما بين الشعرين من تشابه، ليس فقط في البعد اللغوي، بل كذلك في المواضيع التي يتطرق اليها كل منهما في شعره، وكذلك في مفهومه العام للشعر، ثم اخيراً في توجهه المباشر الى الجمهور العادي، بصرف النظر عن «ضرورة المرور عبر نخبة القراء قبل ان تستتب للشاعر مكانته». إذاً، مثل نزار قباني، كان جاك بريفير الذي رحل عن عالمنا في العام 1977، شاعراً شعبياً من طراز رفيع، اي شاعراً يتوخى مخاطبة قراء شعره بلغة بسيطة (تنتمي الى السهل الممتنع على اي حال) ويتوخى في الوقت نفسه التعبير عن موضوعات تمس الحياة اليومية، وذهنيات الناس وعواطفهم وأحاسيسهم. ومن هنا كان من الطبيعي لشعره ان يصل الى الناس، ليس فقط من طريق الكلمة المطبوعة، بل كذلك وفي شكل خاص، من طريق الأغنية. وبريفير اعتبر الى جانب لوي آراغون من اوائل الشعراء الذين كان المغنون الكبار يقبلون على تلحين قصائدهم وغنائها، تشهد على هذا أغنية «الأوراق الميتة» التي جعلها غناء ايف مونتان وموسيقى جوزف كوزما، واحدة من أشهر الاغاني الفرنسية على الإطلاق. اذاً، هل نحن بعيدون هنا عن تذكر ان نزار قباني، بدوره، أضحى، ومنذ غناء نجاة الصغيرة قصيدته «أيظن» وصولاً الى تلحين كاظم الساهر أجمل أشعاره، واحداً من ابرز مؤلفي الاغاني العرب؟ > ولكن، لئن كرس نزار قباني حياته الإبداعية كلها للشعر، فإن جاك بريفير نوّع توجهاته، رغم انه اشتهر، في الاساس، كشاعر. فهو خاض الرسم والكتابة القصصية وكتابة السيناريو السينمائي، بل ان ثلاثة من أهم الأفلام الفرنسية خلال النصف الأول من هذا القرن، تحمل توقيعه وهي «المأساة الغريبة» (1937)، و «زوار المساء» (1942) ثم بخاصة «اطفال الجنة» (1944) الذي كما أشرنا، يعتبر أشهر وأنجح فيلم فرنسي على الإطلاق. وهذا يعيدنا طبعاً الى هذا الفيلم الذي كان واحداً من الأفلام التي رسخت مكانة الكاتب على حساب المخرج. فللفيلم حكايات لا تنتهي، منها انه صُوّر أيام الاحتلال الألماني لفرنسا ليكون أضخم انتاج سينمائي فرنسي حتى ذلك الحين. ولكن أيضاً ليتهم من قبل البعض بأنه كان متعاوناً مع الإحتلال النازي. ولكن لئن تبدّى هذا الإتهام صحيحاً نسبياً بالنسبة الى بطلته آرليتي - التي ستستعير لاحقاً جملة من حوارها في الفيلم وهي «أنا كما أنا» لتعنون بها كتاب مذكراتها - التي اعتقلت ما إن تحررت باريس، وكذلك بالنسبة الى احد الممثلين وهو روبير لي فيغان الذي هرب إذ انكشف انه مخبر لدى الألمان - وكان في الفيلم يقوم بدور المخبر جريكو! -، فإن الإنصاف يقتضي الإشارة الى ان فريق الفيلم ضمّ اثنين من كبار الفنانين اليهود في فرنسا، مهندس الديكور الكساندر تراونر، والمؤلف الموسيقي جوزف كوزما، علماً أن نسخ الفيلم الأولى حملت اسمين مستعارين لهما... ما يعني ان أصحاب الفيلم قد احاطوهما بالحماية منعاً من اعتقال الألمان لهما. > مهما يكن فإن «أطفال الجنة» لم يكن على اية علاقة بالسياسة، بل كان فيلماً عن التمثيل المسرحي والموسيقى والغناء والحياة الشعبية الباريسية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. فالفيلم ينقسم قسمين، يدور اولهما في العام 1926 حيث يقدم الينا وسط صخب احتفالي عدداً من الشخصيات التاريخية والمتخيلة من ممثلين ورسامين وحواة وموسيقيين وكل ذلك من حول ممثل الإيماء باتيست ديبورو الذي كان معروفاً حقاً في باريس ذلك الحين، لكن بريفير استعار شخصيته ليركّب من حولها حكاية غرامية مربّعة إذ صوره لنا منذ البداية ينقذ بشهادته الإيمائية الصامتة، الحسناء غارانس من تهمة السرقة. لكنه في المقابل لا يجرؤ على مصارحتها بحبه. غير ان هناك ناتالي التي تحب باتيست بصمت هي التي يتولى ابوها ادارة مسرح في المنطقة... وهكذا تتعدد الشخصيات وقصص الحب المتشعبة، فيما تغوي غارانس ثريا نافذا - استعار بريفير شخصيته من كونت كان ابن عم لنابوليون، كما من وزير للخارجية في العهد السابق - وتصبح عشيقته بعدما ينقذها من براثن احد لصوص المنطقة. > وعلى هذه العلاقة ينتهي القسم الأول من الفيلم، ليبدأ القسم الثاني الذي تدور احداثه بعد بضع سنوات لنعود الى باتيست وقد تزوج من ناتالي وبات الآن ذا اسم كبير على مسارح البوليفار الباريسية لكنه وكما يبدو لا يزال في اعماقه مغرماً بغارانس التي تعود الى باريس بعد غياب لتحضر - متنكرة - كل عروض باتيست. وهنا تتعقد الأمور وتتشابك في تعقّد للنهايات برع بريفير في شكل خلاق في تصويره مستعيناً بلغة شاعرية لا تنسى. لغة رأى كثر من النقاد انها العنصر الأهم في هذا الفيلم الذي أضيف الى الفيلمين الكبيرين الآخرين اللذين كتبهما بريفير ليكوّنا تراثه السينمائي الكبير. > ففي تلك الافلام، كما في اشعاره في شكل عام، كان جاك بريفير شاعر العمق والبساطة في آن معاً، شاعر الحنان والتهكم مجتمعين. وحسبنا اليوم ان نقرأ مجموعته الشعرية «كلمات» التي أصدرها في العام 1946 أي في عز زمن نجاحاته ككاتب سيناريو وكاتب أغاني، لنكتشف مدى تأثرها ببساطة وتعقد الحساسيات في زمننا المعاصر، هذا. من هنا لم يكن صدفة ان تلقى تلك المجموعة نجاحاً كبيراً منذ صدورها حيث أقبل القراء على التهام نسخ طبعتها الأولى، مما دفع بريفير الى واجهة الصدارة بين ابناء جيله، هو الذي كانت بداياته السوريالية، في رفقة ايف تانغي ومارسيل دوهاميل تشي بأنه سيكون كاتباً عسير القراءة غامض الرؤى. ولقد عزا النقاد ذلك النجاح الى بساطة اللغة واناقة التعبير، ولكن ايضاً الى تلك الحرارة الانسانية المتدفقة من كلمات وسطور يخيل للقارئ من فوره انه انما هو كاتبها. > حين توفي جاك بريفير أحست فرنسا أنها فقدت شاعرها الشعبي الأول، كما أحسّ أهل الأدب والفكر انهم فقدوا صديقاً ملهماً كان يكتب للآخرين ولهم، وعن الآخرين وعنهم. ترى ألم يكن هو الذي كتب أجمل النصوص عن بيكاسو او عن خوان ميرو وغيره نصوصاً قربتهم الى اذهان الشعب؟ مهما يكن فإن بريفير من دون ان يكون صاخباً في مواقفه واختياراته عرف دائماً كيف يكون قريباً من الشعب ومن النخبة في الوقت نفسه، لا سيما خلال الخمسينات، حين خاض العمل المسرحي ايضاً وأسس فريق «اكتوبر» الذي كشف بوضوح عن توجهات يسارية لديه لم تكن واضحة من قبل.