طيلة عقود اعتُبِرت الدولة الوطنية من دون سواها الفاعل الدولي الوحيد المعترف به في العلاقات الدولية، لكن التطورات المتلاحقة التي اعترت النظام الدولي فرضت فاعلين جدداً دون الدول non-state actor أوsub national actors، على شاكلة المنظمات الدولية، كعصبة الأمم التي عرفها النظام الدولي المتعدد الأقطاب في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ثم الأمم المتحدة التي التأمت بعد الحرب العالمية الثانية في كنف النظام الدولي الثنائي القطبية، ومن بعد ذلك المنظمات الإقليمية كجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي وما شابههما، مرورًا ببعض الشخصيات الدولية المؤثرة، كما الشركات والمؤسسات الاقتصادية العالمية العملاقة، وصولاً إلى الجماعات والتنظيمات الإرهابية ذات الانتشار العالمي العنكبوتي الواسع. وفطنت القوى العظمى منذ وقت مبكر لأهمية الدور المتنامي للجماعات والتنظيمات الإرهابية حول العالم، ومن ثم هرعت لتوظيفها كأداة في الصراعات الدولية، وفقاً لمبدأ الإدارة من خلال الأزمات، توخياً لحماية مصالحها وإنجاح استراتيجياتها الكونية. وفي هذا المضمار، برز جلياً الدور اللافت لواشنطن في تجييش الحركات الجهادية المتأسلمة بغية توظيفها لخدمة المشاريع الإستراتيجية الأميركية في أصقاع شتى من المعمورة. فإذا كانت بريطانيا هي المسؤول الأول عن احتضان جماعة الإخوان المسلمين في مصر منذ العقد الثالث من القرن المنصرم، فإن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية إنتاج ورعاية التنظيمات الإسلامية التكفيرية الجهادية التي انبثقت من عباءتها لاحقاً وتباعاً، لتبدأ نشاطها العالمي منذ العام ١٩٧٩اثناء الغزو السوفياتي لأفغانستان في أوج الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي. حينئذ، اعتمدت وكالة الاستخبارات الأميركية استراتيجية إثارة العامل الديني في نفوس الشباب المسلم واستثماره لمحاربة السوفيات في أفغانستان، ومن ثم عكفت آلة الدعاية السياسية الأميركية على الترويج لفكرة مفادها بأن الغزو السوفياتي لأفغانستان إنما هو في حقيقته عدوان من دولة ملحدة على شعب مؤمن، الأمر الذي يستوجب استنفاراً عالمياً للمؤمنين والمجاهدين بقصد تحرير الشعب الأفغاني المؤمن من براثن الغزو السوفياتي البربري الملحد. وبدعم من أطراف إقليمية، تم تشكيل ما سمي وقتذاك تنظيم «المجاهدون الأفغان» بعد أن تم استنفار الشباب المسلم من مختلف البقاع العربية والإسلامية، وإمداده بالسلاح الناجز بما في ذلك صواريخ أرض- جو الأميركية المتطورة من طراز «ستينغر»، التي لعبت دوراً كبيراً في الحد من فعالية الطيران الحربي السوفياتي في حينه. وما إن وضعت الحرب بالوكالة في أفغانستان بين موسكو وواشنطن أوزارها في العام 1990 بانتصار المعسكر الغربي وحلفائه ووكلائه وهزيمة القوات السوفياتية وإعلان الرئيس السوفياتي آنذاك ميخائيل غورباتشوف سحب قوات بلاده من أفغانستان، حتى أوقفت واشنطن نشاطها وقررت مغادرة المنطقة تاركة المجاهدين الإسلاميين يتصارعون ويقتتلون على أرض أفغانستان التي أضحت بيئة حاضنة لصنوف شتى من التنظيمات الجهادية المتطرفة كحركة طالبان التي بسطت سيطرتها على المشهد الأقغاني، ثم تنظيم «القاعدة»، الذي حمّلته واشنطن مسؤولية اعتداءات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١، التي غزا على إثرها الأميركيون أفغانستان. وعلى رغم الكلفة الهائلة التي تكبدتها نتيجة استراتيجية اللعب بالنار والرقص مع الجهاديين الإسلاميين، لم تتورع واشنطن عن معاودة الكرة في البوسنة وكوسوفو، ليعاني العالم ويلات جماعات العائدين من أفغانستان، باكستان، البوسنة، الشيشان وكوسوفو، توخياً لبلوغ غايات تتصل بتفكيك يوغوسلافيا وتصفية النظام الصربي بعد أن أمسى عبئاً على الأميركيين والإنسانية جمعاء في العام ١٩٩٩. واليوم، وبعدما اقتضت خصوصية التحولات الجيواستراتيجية التي ألمّت بمنطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الخمس المنقضية أن تنحو واشنطن باتجاه تركيز الاعتماد الإستراتيجي خلال الفترة المقبلة على الفاعلين السياسيين دون الدول في منطقة الشرق الأوسط، بدلاً من الفاعلين التقليديين على مستوى الدول State actors، انبلجت استراتيجية دعم تنظيمات على شاكلة «الإخوان المسلمين»، «داعش» و» جبهة النصرة» و «الحوثيين» وغيرها تمهيداً لتوظيفها في تنفيذ المشاريع والمخططات الأميركية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط وشرق آسيا. ففي مسعى منها إلى توجيه دفة الحراك الثوري العربي الذي اندلعت شرارته الأولى مطلع العام 2011، لم تتوان واشنطن عن معاودة التنسيق مع تيارات الإسلام السياسي، وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، حتى طاولت الشبهات دوائر أميركية بالتفاهم مع تنظيمات أشد راديكالية على غرار «داعش» و «جبهة النصرة» وغيرهما، بدعم من شركاء ووكلاء إقليميين كإسرائيل وتركيا وإيران، بغية توظيفها في إنفاذ المخططات الأميركية الرامية إلى تغيير خريطة المنطقة بالكامل توطئة لنقل مركز الثقل في الإستراتيجية الأميركية من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا تحسباً للخطر الصيني المتفاقم. وكم كان لافتاً اقتصار استراتيجية التحالف الدولي بقيادة واشنطن في التعاطي مع تنظيم «داعش» وأعوانه على العمل لصدهم واحتوائهم والحد من تقدمهم فقط من دون إنهاء خطرهم وتهديدهم كلية بالقضاء عليهم قضاء مبرماً، ثم عدم تورع واشنطن عن التصريح بأن القضاء على التنظيم قد يستغرق عشر سنوات. وتحت وطأة الضغوط الإعلامية والمساءلات السياسية، لم تجد وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون بداً من الإقرار بضلوع واشنطن في مثل هذه الأدوار والنشاطات، وذلك إبان إفادة سرية لها أمام الكونغرس أدلت بها في نيسان (أبريل) من عام 2013، وتم تسريب جل محتوياتها لاحقاً. ثم إذا بها تؤكد قبل أيام أن القضاء المبرم على «داعش» يجب ألاّ يتصدر أولويات واشنطن في منطقة الشرق الأوسط. من هذا المنطلق، لم تجد واشنطن وحلفاؤها غضاضة في توظيف إرهاب «داعش» لبلوغ غايات أميركية ملحة من دون تورط في مواجهات مباشرة حول العالم، من قبيل تفكيك بعض الجيوش النظامية العربية الضاربة، أو تفكيك بعض الدول الوطنية العربية، أو حتى كبح جماح التقارب الاستراتيجي المتنامي بين القاهرة وكل من موسكو وباريس، خصوصاً على صعيد التعاون العسكري الذي خول المصريين الحصول على أسلحة نوعية كالمقاتلات الفرنسية المتطورة من طراز «رافال» و «ميسترال» وكذا منظومة صواريخ «إس 300» الروسية الحديثة وغيرها. ولعله لم يكن مصادفة أن ينحصر إرهاب «داعش»، حتى الآن على الأقل، في مصالح فرنسية وأخرى روسية على أرض مصرية، وذلك من بين أكثر من ستين دولة تحالفت تحت قيادة واشنطن لمحاربة التنظيم في سورية والعراق منذ عام ونصف العام. وبموازاة ذلك، تسنى لوكلاء واشنطن الإقليميين تحقيق مغانم، لا يستهان بها، لقاء اضطلاعهم بدورهم ضمن الاستراتيجية الأميركية القائمة على توظيف الإرهاب وتنظيماته في المنطقة. فبعدما استعاد حزب العدالة والتنمية التركي هيمنته على مقاليد السلطة في بلاده ورمّم إردوغان علاقاته وتحالفاته مع واشنطن وتل أبيب، ها هي إيران تحظى باعتراف دولي بدورها في محاربة «داعش» ومشاركتها في مفاوضات فيينا. أما إسرائيل، التي باتت تعاني الأمرين من تغير قواعد الاشتباك والمواجهة مع الدول العربية على أثر دخول تنظيمات أو حركات مقاومة مسلحة إلى معادلة الصراع كبديل من الجيوش النظامية، حيث تعد حركات المقاومة الفلسطينية المسلحة كحماس وكتائب القسام وغيرهما إلى جانب نظيرتها اللبنانية كـ «حزب الله»، أشد صموداً وجاهزية لمواجهة قوة إسرائيل العسكرية في حروب غير متماثلة أو غير متناظرة تعتمد على استراتيجية حرب العصابات، وهو ما يشكل استنزافاً حقيقياً وموجعاً لجيش الاحتلال الإسرائيلي، فقد عمدت تل أبيب بتنسيق مع واشنطن إلى تبني استراتيجية مضادة تقوم على اختلاق فاعلين عسكريين غير نظاميين على شاكلة «داعش».