سكنتُ قبل سنوات في فندق فخم بجدة.. سارت الأمور جيدا حتى رأيت صرصارا يمشي في الغرفة. تجاهلت الأمر وذهبت إلى الحمام فرأيت شقيقه يختبئ تحت المغسلة.. لم أطق صبرا فخرجت ورفعت سماعة التلفون وقدمت شكوى لموظف الاستقبال.. وفي اليوم التالي وجدت مغلفا أنيقا تحت باب غرفتي.. فتحته ووجدت داخله رسالة جميلة من مدير الفندق يعتذر فيها عما حدث ويفيدني بأن شكواي كانت سببا في تواصلهم مع شركة متخصصة في التخلص من الحشرات الضارة.. ومن باب المجاملة عرض علي تناول القهوة مجانا في كافتيريا الفندق.. لا أخفيكم أعجبت بسرعة الرد ولباقة الاعتذار ومتابعة المدير.. غير أن كل هذا زال في لحظة حين تنبهت إلى وجود ورقة صفراء صغيرة (ملتصقة خلف الرسالة) يقول فيها المدير بخط يده: «أبعث للعميل الرسالة الخاصة بالصراصير».. وهذا أيها السادة ما أدعوه ثقافة التبرير التي تعتمد على تبرير وتوصيف المشكلة، وليس المبادرة لحلها أو اقتلاعها من جذورها.. ألم يكن من الأسهل فعليا التخلص من الصراصير بدل هذا الجهد المكتبي والورقي الهائل؟ فهناك فرق كبير بين توصيف المشكلة والمبادرة لحلها، بين تشخيصها، وبين اقتلاعها من جذورها.. حين تسود ثقافة التبرير تتأجل المشكلات وتسمع جعجعة دون أن ترى طِحنا.. هذا مايحدث غالبا لدينا فتتكرر مشكلاتنا عاما بعد عام بنفس الطريقة، ونفس السيناريو وبنفس الطريقة والسيناريو يكون تبريرنا وردنا عليها.. ثقافة التبرير لدينا أصبحت حالة شائعة ومزاجا عاما.. حين يتأخر عليك زميلك يعتذر بزحمة الرياض (وكأنه لم يعرف ذلك من قبل)، وحين تحدث كارثة وطنية يتهرب الجميع من المسؤولية ويكتفي الموجود في وجه المدفع بتوصيف المشكلة دون تقديم حلول لها.. خذوا كمثال الحوادث المتتالية لقطارنا الوحيد بين الرياض والدمام.. مرة يكون العذر «عواصف ترابية» ومرة «ارتفاع حرارة المحرك» وثالثة «الجمال السائبة».. وهذه كلها لا ترقى حتى لمستوى التبرير كوننا أدرى الناس بهبوب الرمال، وارتفاع درجة الحرارة، ووجود جمال في الصحراء.. لماذا لم يقع أي حادث في ألمانيا وفرنسا خلال عام 2014؟ لماذا لم يقع حادث لقطارات الرصاصة العاملة في اليابان منذ أربعين عاما رغم أنها تنطلق كل عشر دقائق؟ .. وفي المقابل هناك ثقافة التحقيق والإصرار على معرفة السبب (كي لا تتكرر المشكلة مستقبلا) دون تبرير أي شيء مسبقا.. أشاهد نماذج لهذه الثقافة كلما شاهدت برنامجا يدعى «تحقيقات الكوارث الجوية».. ففي حين نكتفي نحن (بقدر الله وماشاء فعل) نجد إصرارا عجيبا على معرفة سبب سقوط كل طائرة مهما كلف الثمن.. ترسل شركتا بوينج وإيرباص فريقا خاصا إلى دول بعيدة للبحث عن الأسباب والتعلم من الأخطاء.. تستغرب من عدم يأس المحققين وإصرارهم على معرفة الحقيقة (رغم فقد الصندوق الأسود، ووفاة الركاب، واحتراق الكابينة، وتمزق الطائرة فوق البحر أو غابة كثيفة).. وحين يكتشفون السبب يبلغون جميع الطائرات المشابهة في العالم بأسباب الحادث (كي لا يتكرر لديهم) وينبهون الشركة لتلافي الخلل في الطائرات الجديدة.. فالقضية لم تعد متعلقة بالحادث السابق، بل بمنع الحادث التالي وضمان عدم تكرار المشكلة مستقبلا.. ولهذا السبب يصبح الطيران عاما بعد عام من آمن وسائل السفر مقارنة بملايين الطائرات التي تقلع كل عام. .. ما الذي يمنعنا نحن من امتلاك ثقافة تحقيق مماثلة؟ متى نتوقف عن تبرير مشكلاتنا الأزلية ونبادر لحلها بطرق جذرية تمنع تكرارها مستقبلا؟ سئمنا تبرير مشكلات الصحة والتعليم والعمل والإسكان دون حلها بطريقة جذرية طوال السنوات الماضية.. أصبح تبرير معاليه ليس مستهلكاً فقط بل ويتم توزيعه بطريقة مكررة تشبه رسالة الصراصير.