لم تكن جدران الغرفة تتحرك ليلا بهدف الاطباق على انفاسه كما تخيل دوما في طفولته... ولم تكن هناك اصوات أزيز نحل تنبعث من غرفة اخوته البنات! كانت اخته الصغرى «أمينة» متيمة بالكامل بجواربها الطويلة السوداء ذات الخطوط الصفراء، كانت تجعلها تبدو كنحلة عملاقة- صغيرة بعض الشيء- بالنسبة لحجم اخته... كانت مرحة ولها ولع خاص بالموضة منذ طفولتها، كانت تعرف كيف تجمع اجزاء مختلفة ومتنافرة جدا لتبدوا في النهاية شديدة الأناقة حتى وان بدت للآخرين غريبة الأطوار، كانت لها طريقة مميزة في السير، خطواتها خفيفة جدا كأنها تثب كفراشة... أو وكأنها تمارس نوعا خاصا من الرقص، كان لضحكتها رنين مميز كالأجراس... يذكر انها كانت ترتدي تلك الجوارب كثيرا مع ذلك الحذاء الشتوي الاسود حتى في فصل الصيف، كانت امه تعترض كثيراعلى أفعالها المنفتحة وعلى ضحكاتها الرنانة وعلى ملابسها الغريبة! على خلاف «أمينة»... كانت اخته الكبرى... تشبه أمه (أمهم) الى درجة كبيرة، فقط كانت تهتم بمظهرها بشكل اكبر، لم يكن هناك ما يميزها بشكل خاص، فتاة اخرى، على درجة من الجمال، وتعرف كيف تهتم بشؤون المنزل و(شؤونه)... كانت لا تتكلم كثيرا معه او مع اي شخص، وكان لنظراتها- مثل أمه- شيء من الأنكسار... فقط «أمينة» كانت تختلف، كانت عيناها تتألقان بالحياة، وجسدها يفور بالجموح... كانت تمازحه احيانا وكأنها صبى! وتحدثه كأنها حبيبة... وترشده كأنها أباه، وتحتويه احيانا كأنها أمه... موت والده المبكر جعله على درجة من الأنطواء خصوصا مع كمّ القيود والحدود التي فرضتها عليهم أمه... كانت المسؤولية التي ألقاها عليه الواقع تجعلها صارمة وحادة وعصبية... هذه القيود بالطبع مضاعفة على اخوته... تقبلتها اخته الكبرى برضا وكأنها خلقت من اجلها! هو لا يذكر بالضبط متى ظهر هذا الانكسار الغريب في عينيها... هل ولدت به يا ترى؟ّ! كان الفارق العمرى عام واحد وبضعة اشهر بين كلً منهما... ولكنه كان يشعر انها اعوام بالنسبه لأخته الكبرى... كان الحوار بينهما مستحيلا. الغريب هي تلك الأصوات التي كان يسمعها من خلف باب غرفة اخوته المغلق... اصوات احاديث مختلطة وضحكات كأنها من خارج الزمن... كانت أمه تحذره دوما من دخول غرفة اخوته في المساء ولم يكن يرى اي سبب واضح لهذا! لكنه بحكم العادة كان يطيعها ويظل طوال الليل يتخيل ان جدران حجرته تتحرك للداخل بفعل تعويذة الجنية نفسها التي تمنح الحياة لغرفة اخوته في المساء... ربما كانت تتحرك لمنح غرفتهما مساحة اكبر لممارسة المزيد من السحر. لا يذكر كم استمر كل هذا؟ ولكنه يذكر بالضبط متى انتهى! كانت أشعة الشمس تتخلل كل ارجاء المنزل... كانت أمه قد رفعت كل السجاد وبعض قطع الأثاث للتنظيف ربما، كان يوما هادئا جميلا لو نظرة الهلع التى سيطرت على كل خلجات اخته الكبرى، كانت عيناها الواسعتان قد تجمدتا تماما بفعل الدموع المتحجرة فيهما... ما جعل وجهها اشبه بوجه دمية مرعبة. «أمينة» فقط كانت تركض بخطواتها المتوثبه هنا وهناك... ترتدي الجوارب نفسها المخططة، وتنورة قصيرة صفراء، لها من العمر سبعة اعوام... فقط سبعة اعوام، ولكن حضورها كان كاسحا... شعرها البني المموج الكثيف يثور بشدة حول وجهها المتورد... ترفض دائما كل محاولات امه لكبته وتجديله، تجاوز مقعده والنظر الى اخته المذعورة... تسلق ظهر المقعد الذي اختفت خلفه «أمينة» ربما لتتبع سرب من النمل... راقبها للحظات وعلى شفتيه ابتسامة خبيثة، انتظر حتى رفعت رأسها قليلا ثم اصدر ذلك الصوت المرعب بالنسبة له ولها... صرخت هي للحظة وقد اتسعت عيناها الواسعتان اصلا في ذعر... واخفت فمها بكفيها الصغيرتين... استغرق ذلك منها لحظة واحدة قبل ان تقفز متسلقة ظهر المقعد ليسقط كلاهما ارضا وهما غارقان في الضحك، وفي تلك اللحظة فتحت الأم الباب... لتركض الأخت الكبرى الى غرفتها وتغلق بابها عليها بقوة، خلف الباب كانت تلك المرأة... عجوز جافة اليدين... تحمل بيدها حقيبة صغيرة اشبه بحقائب الأطباء! اللحظات التالية كانت عادية... لم تركض «أمينة» مثلا هاربة، بل امسكت هي بها كقط صغير... دخلا بها الى غرفة الأم واغلقتا الباب! الحديث عن الصراخ ايضا غير واقعي... فقط كان هناك الكثير من البكاء... كانت تبكي بنشيج متواصل، الغريب فقط انه يذكر انه لم يسمح اي حديث متعاطف تجاة الطفلة... تركوها تبكي حتى تقطعت انفاسها، واصبحت تئن في تعب... الباب المغلق جعل الغرفة كحصن منيع بالنسبه له، اختراقه بحاجة الى قائد عسكري... فكر مالذي يحدث الآن في الداخل؟ الأبواب المغلقة كانت اكثر ما يكره منذ طفولته... لماذا لا يستطيع فقط ان يفتح الباب ويدخل ليرى ما يفعلونه بأخته؟ بعد هذه الحادثة تغيرت «أمينة» تماما... ظلت لأيام في غرفة أمها... كانت تبكي كثيرا وهي نائمة وكان يستطيع ان يسمع بكاءها من خلف باب أمه المغلق، أحيانا كان يسمع بكاء اخته الكبرى أيضا... يذكر انها لم ترتد جواربها المخططة ابدا بعدها، بل حتى لم ترتد التنانير او الفساتين... أصبح ذوقها ذكوريا قليلا في اختيار ملابسها، وحتى في اختيار الألوان، كانت تتحول أيضا ولكن ليس إلى نسخة أخرى من أمها واختها، بل الى كائن غاضب قليل الكلام... احبت كثيرا في مراحلها المتقدمة ان ترسم... وكانت ترسم على حائط غرفتها التي لم تكن تغلق بابها الا اثناء النوم، كانت تتعمد ان يرى الجميع ما ترسمه... أطفال عرايا كالملائكة والكثير من الغيوم السوداء... تمسح لترسم الكثير من النساء العاريات، تمسح مرة واخرى وترسم نساء في اوضاع الموتى والدم يغطي اجسادهن جميعا... الغريب ان الأم لم تعترض ابدا على كل هذا مادام في نطاق غرفتها المغلقة... التي لا يراها احد... كانت «أمينة» ناجحة عمليا... ولكنها كانت بلا اصدقاء... لم تتحدث في الهاتف بالساعات ولم تخرج برفقة صديقتها لتجلس في الكافيهات. مع الوقت وزواج اخته الكبرى واحساسه بفراغ البيت الصغير اصلا... كان يتمدد في فراشه كل مساء منتظرا ان يسمع ضحكات اختيه عبر الجدار المشترك للغرفتين، لكن يبدو ان «الجنية» لم تعد تزور منزلهم منذ زمن... لم يعد هناك اي اصوات من وراء الأبواب سوى صوت خبطات فرشاة اخته الثقيلة على الجدران... لم يكن ازيز نحل... بل كان صلصلة اغلال! كان في داخله يتوق الى لحظة من الماضي الذي بدا بعيدا جدا... ادرك ان الجدران الآن لا تتحرك لتوسع غرفة «أمينة»... بل ان انفاسه تضيق لأنه حزين من اجلها. «أمينة» لم تتزوج ابدا... وقبل زواجه اخبرها ان يتوق لسماع ضحكتها الرنانة... وان يراها في احد اثواب طفولتها المجنونة... اخبرها انه احبها كثيرا... لم تكن غاضبة منه او عليه... لحظتها كان يفهم جيدا ما لم يفهمه في طفولته... لكنها امتلكت الجرأة لتقول: «تصور ان تقيدك أمك بينما يقتطع شخص غريب جزءاً من جسدك... تصور ان تبكي فلا تضمك... بل يبدو عليها الرضا والراحة لصنيع يدها... بعض الألم لا يزول مع الوقت بل يزيد، لا تضرب طفلك ابدا من دون ان تشرح له على الأقل لما تفعل ذلك... هذا سيفقده الثقة في كل شيء». في منزله الجديد كان هناك أيضا الكثير من الغرف المغلقة... الغرف المغلقة منتشرة في كل مكان... ومليئة بالاسرار والأحلام واللذات والطموحات... لكنه نام محتضنا زوجته وهو واثق ان الغرف المغلقة في منزل أمه كانت خاوية كنفس «أمينة»!