عندما يدرس التاريخ بطريقة رتيبة غير جاذبة علينا أن نتوقع عدم حرص المتلقي على استحضاره والاستفادة منه، فالمغزى الأساسي من تعقب ومعرفة الأحداث في الماضي الاستدلال بها في معرفة واستقراء المستقبل، فالحضارات والعلم والتقدم أمر تراكمي قائم على الخبرات، ومعرفة الظواهر والأحداث الإنسانية بشكل عام يساعدنا على التنبؤ بشروطها وعوامل حدوثها وإيجاد الحلول للمختل منها، بل وتفاديها إن كان ذلك ممكنا.. والمجتمعات التي تحرص على تعريف أبنائها القصص التاريخية الخاصة بحضارتهم إنما تفعل ذلك لتخلق نوعا من الحرص وحراسة المجد الذي جاء على أعقاب مشقة شديدة لبلوغه، وقد تنهج أحيانا المبالغات وتهويل الحقائق وتعظيم الأشخاص والمنجزات بشكل لافت حتى تضمن رسوخ ذلك في ذهنية الأفراد ليكونوا حراسا على أمجاد وطنهم.. وأحيانا لا تكمن المشكلة في غفلة بعض المجتمعات عن التعريف بحضارتهم أو الحديث عن أمجادهم وعظمائهم التاريخيين (لخلق قيمة تجاه حاضرهم والمحافظة عليه) إنما الإشكالية تحدث عندما تعمق هذه الفكرة بطريقة تؤدي إلى خلق مشكلات فكرية تفعل النقيض من المبتغى المراد.. على سبيل المثال عندما نتحدث عن المجد العظيم الذي حدث في عهد الخلفاء ومن بعدهم وعن عظمة الحضارة العربية والإسلامية بطريقة تخلق نوعا من الحسرة وتحفيز الذهنية المتلقية على استعادة هذه الأمجاد؛ هنا تحدث المشكلة. إن هذا المأزق في تدريس التاريخ وقعت فيه معظم المجتمعات العربية ولكن تم الالتفات له حديثا، فكثير من الدول استدركت هذا الخلل وعملت على تقويمه ولكن بطريقة يشوبها القصور. ولكي ندرك فداحة هذا الخطأ - وكيف أن الذهنية المأسورة لأمجاد الماضي بطريقة خاطئة تخلق فكرا معتلا يتوهم القدرة على استعادة هذه الأمجاد - علينا أخذ إيران مثالا على ذلك وكيف أن مجموعة أشخاص مرضى بالماضي تقلدوا سلطة عليا فيها وعاثوا في حاضرهم ومستقبلهم وأمتهم، لمجرد تحقيق رغبات خيالية مرتبطة بماضٍ قديم جدا يحتاجون لاستعادته (كما هو تاريخيا) أن يعيشوا حياة أخرى خارج هذا الكوكب. وإذا كنا سنتحدث عن هوس استعادة الماضي بأحداثه التاريخية وكيف يمكن أن يدفع بالأفراد والجماعات والدول إلى ارتكاب أفعال حمقاء سياسيا ودينيا لا يمكننا الاكتفاء بضرب مثال بسيدة هذا الهوس (إيران) إنما علينا لفهم كيف يحدث هذا على مستوى الأفراد والجماعات التذكير بأفعال داعش والمنقادين والمتعاطفين معها، فالمنساقون معها لا يحاولون فقط الوصول إلى نهايات تقودهم إلى الحور العين إنما يظنون أن جثثهم القذرة ستمهد الطريق نحو استعادة حضارة قديمة وإقامة دولة جديدة على غرارها!! تأملوا معي كيف سيكون الحال عليه لو حدث العكس مما سبق؟ بمعنى لو أن تاريخنا الحديث وتاريخ دولتنا هو من توغل في الذهنية العامة كيف ستكون نظرتنا لهويتنا ووطننا وأمجادنا، وكيف ستكون درجة المحافظة عليها والولاء لها؟. وهذا لا يسقط علينا فقط إنما يمتد لجميع المجتمعات، فلو كانت المجتمعات العربية درست التاريخ لجني الفائدة وليس التحسر على ما فقد مما مضى، ولو عمقت أهمية تاريخ دولتها الحديث لأنه لا يقل قيمة ومجدا وأهمية عما سلف لقطفت ثمارا فكرية تأكل وتحيا منها.. علينا إعادة النظر في تدريس التاريخ بطريقة تجنبنا ما سلف وتفتح لنا طريقا متقدما للأمام وليس التقهقر إلى الخلف.