×
محافظة المنطقة الشرقية

المنيع : التوقيع فوق الخط الأحمر حرام

صورة الخبر

لاشك في أن ذاكرة الجمعية الفلسطينية تختزن خبرة انتفاضة 87 الشعبية العارمة، لذلك من الطبيعي أن يستلهم الفلسطينيون تلك الانتفاضة. أمّا الميل إلى استنساخها في المواجهة الجارية، كما تدعو جهات قيادية فلسطينية متنوعة المشارب، فأمر تعسفي وغير منطقي، ارتباطاً بمتغيرات ميدانية وسياسية جديدة؛ توجب ابتكار صيغ جديدة، ها هو جيل شبابي جديد يجترحها، بإبداع، في الميدان بمشاركة شعبية، تتفاوت سعتها بين منطقة وأخرى، فهي واسعة، (مثلاً)، في كل من القدس والخليل ومناطق 48، حيث التشابك السكاني الواسع بين التجمعات الاستيطانية اليهودية والتجمعات الفلسطينية، لكنها محدودة في المواجهات عند بوابات مناطق السلطة الفلسطينية في الضفة وقطاع غزة، حيث تقع نقاط التماس التي يتم وضع جنود جيش الاحتلال فيها، منذ أعاد انتشاره خارج الأساسي من التجمعات الفلسطينية، بناء على اتفاق أوسلو، ثم فك الارتباط العسكري والاستيطاني مع قطاع غزة. لكن في الحالات كافة، فإن هذا لا يبرر الاستعجال التعسفي بإصدار حكم قاطع بأن المواجهة الجارية مجرد هبَّة شبابية، أو بأنها ستبقى كذلك، فقط لأنها لم تأتِ نسخة كربونية عن انتفاضة 87 الشعبية العارمة، هذا؛ ناهيك عن أن الطابع الشعبي لهذه المواجهة قائم وملموس في مشاركة جماهيرية من مختلف الفئات العمرية والاجتماعية، في جنازات وبيوت عزاء الشهداء، وفي الاشتباك الواسع مع جنود الاحتلال ومستوطنيه عند اقتحامهم لمناطق بعينها في الضفة؛ وفي مهاجمة المستوطنين وجنود الاحتلال على الطرق الالتفافية؛ وفي استجابة الناس جميعاً لدعوات الإضراب الجماهيري، سواء كان وطنياً عاماً أو محلياً مناطقياً، وفي احتفاء عموم أبناء الشعب الفلسطيني بعمليات الطعن والدهس وإطلاق النار والزجاجات الحارقة؛ وفي تحمُّلِ الحالة الشعبية، عن طيب خاطر، تبعات ما يفرضه الاحتلال من عقوبات جماعية، وعمليات تطهير عرقي مُخطط بلغت حدود التلويح بشطب إقامات نحو 100 ألف فلسطيني مقدسي يقطنون خلف جدار الفصل والتوسع والضم العنصري. أمّا عما إذا كان الفعل الانتفاضي الجاري واعياً أم عفوياً؟ فإن أهم مزايا الوعي، هنا، هي الحفاظ على الاستمرارية، خلافاً للعفوية التي تهب وتنطفئ بسرعة، ولعل في استمرار المواجهة الميدانية الجارية لأكثر من شهر حتى الآن، فضلاً عن تصاعدها وتمددها إلى كامل مساحة فلسطين التاريخية، ما يشير بوضوح، لاشك فيه، إلى أن ثمة وعياً يحركها، حتى وإن كان على نحو مختلف عن الوعي الذي وفرته، لانتفاضة 87، قيادة الفصائل بتشكيل القيادة الوطنية الموحدة. إذ على الرغم من أن قيادة السلطة الفلسطينية في الضفة وقيادة حماس في قطاع غزة، لم تتخذا خطوة حاسمة لإنهاء الانقسام، بما يفتح الباب لتشكيل الإطار الوطني الموحد المطلوب لقيادة المواجهة الميدانية؛ وتوجيهها وجدولة فعالياتها وتحديد سقفها السياسي، إلّا أن علينا ألّا ننسى أن قيادة السلطة في الضفة امتنعت، لأول مرة منذ انتهاء الانتفاضة الثانية، عن إدانة عمليات الطعن والدهس الفدائية البطولية، وعن إرسال عناصر أجهزتها الأمنية لمنع مسيرات المتظاهرين من الوصول إلى مواقع الاشتباك مع جنود الاحتلال، وعلينا ألّا ننسى، أيضاً، وهذا مهم، أن نسبة عالية من العنصر الشبابي الذي يصنع الفعل الميداني الجاري، ويقوده ويشكل روحه الواعية وركيزته التنظيمية الأساس، تنتمي للفصائل أو تؤيدها أو تتعاطف معها أو تناصرها أو تنتسب لأطرها ومنظماتها الجماهيرية؛ أو تعطيها صوتها في الانتخابات بأشكالها. وإلّا كيف نفسر أن عدداً لا يستهان به من الشهداء والمصابين والمعتقلين معروف بانتمائه أو تعاطفه مع هذا الفصيل أو ذاك. بذلك كله، وبعيداً عن دعوات التنميط، أثبت الشعب الفلسطيني، بفعله الانتفاضي الجاري الذي يتصدره جيل شبابي جديد، (المنظم منه وغير المنظم)، أنه شعب، إلى جانب قدرته على استلهام خبرته النضالية المديدة، إنما يتمتع بمرونة عجيبة، هي ما تجعله قادراً على التأقلم مع كل الشروط، وعلى إبداع صيغ وأشكال وأساليب نضالية إضافية تمليها شروط ميدانية وسياسية جديدة، بل، لا مبالغة في القول، إنه يتمتع بعبقرية تستلهم عبقرية التاريخ الذي لا يكرر نفسه. وبالمحصلة، صحيح أن ثمة فوارق واضحة بين انتفاضة 87، والمواجهة الجارية، لكنها، (الفوارق)، غير كافية للقول إن ما يدور على أرض فلسطين مجرد هبّة جماهيرية عفوية مؤقتة، أو إنها مجرد حركة شبابية بلا طابع أو عمق شعبي، اللهم إلّا إذا أخذنا بمنظور لا يعي، أو لا يريد أن يعي، كما ينبغي، الشروط الميدانية والسياسية المحددة التي انطلق منها، ويدور فيها هذا الطور الجديد من الفعل الانتفاضي، والمشكلة الأساس مع أصحاب هذا المنظور النمطي لا تقع في الخلاف حول التوصيف النظري المناسب لما يُجرى، إنما فيما يقود إليه، سيان بوعي أو بجهالة، من إضاعة للبوصلة بعدم التركيز على الدعوة إلى توحيد الجهود والطاقات والإمكانات الوطنية، وصبها، ميدانياً وسياسياً، لبلوغ ما بلغته انتفاضة 87، إنما في شروط مختلفة، بما هي نهوض جماهيري عارم ومتواصل، بمطلب سياسي وطني موحد ومحدد وواضح، هو إنهاء الاحتلال ونيل الحرية والاستقلال، كشعار ناظم، توافرت له ركائز وطنية ميدانية وتنظيمية واقتصادية واجتماعية ومعنوية وثقافية. فحتى انتفاضة ال2000، وهي الأقرب زمانياً على انتفاضة 87، لم تأتِ، بفعل شروطها المختلفة، نسخة كربونية عنها، بل غلب عليها المظهر المسلح والعمليات الاستشهادية، فيما كان المظهر الجماهيري أقل حضوراً. كيف لا؟ وقد جاء بطش الاحتلال للتظاهرات السلمية في الشهور الثلاثة الأولى لتلك الانتفاضة، قاسياً ودامياً، وصولاً إلى اجتياح الضفة الشامل في إبريل/نيسان 2002، عدا ما سبقه من اغتيال لأكثر من 500 ناشط وكادر وقيادي فلسطيني، واستشهاد أضعافهم، وإصابة أضعاف أضعافهم، في المصادمات والتظاهرات عند بوابات المدن والقرى والمخيمات، حيث تتواجد مئات الحواجز العسكرية لجيش الاحتلال. هنا نعثر على فعل القانون المعروف إياه: ترتقي الوسائل الحربية ارتباطاً بمستويات الصراع، وعلى فعل قانون أن العمليات الثورية في التاريخ لا تسير وفق كاتالوج واحد، وأن صناعها في الميدان هم من يرسمون، وفقاً لشروط محددة، مكوناتها وخط سيرها، وفي كل ذلك ما يجيز القول: إن الشعب الفلسطيني الذي جرب 22 عاماً من المفاوضات الفاشلة والمدمرة، ونحو 10 سنوات من الانقسام العبثي القاتل، إنما يجترح مساراً جديداً، أو يرسم علامة على الطريق، على أقل تقدير. كيف لا؟ وهو الذي يقاتل، في ظروف مجافية، بجرأة تكاد تعانق عنان السماء. ali-jaradat@hotmail.com