بالنسبة للأجيال التي استلهمت من سابقيها في العمل الوطني عشق الوطن إبّان فترة الاستعمار في الأرض العربية، فآمنت بعروبتها ووحدة أهلها بكل معتقداتهم الدينية بعد أن تشربت الفكر القومي وتشكل وعيها عليه، تُعد مناسبة عاشوراء من المناسبات التي يلتئم فيها شمل الشرائح الاجتماعية من كل مكونات المجتمع في البحرين، إن كان بحضور جلسات الاستماع إلى القراءات الحسينية في المآتم، أو بالمشاركة في حضور مراسم العزاء المختلفة ليلاً ابتداءً من ليلة السابع من شهر محرم حتى الصباح، لتتواصل تلك المشاركة حتى نهايتها في ظهيرة العاشر من محرم، حيث استشهاد الإمام الحسين عليه السلام. أما على مستوى الموائد الحسينية التي تقام رجاءً الثواب من الله في محبّة سيّد شباب أهل الجنّة الحسين عليه السلام وآل بيت رسول الله الطاهرين، فإنها تبدأ من أول أيام الشهر إلى العاشر منه إن لم يكن أكثر من ذلك حتى آخر يوم في شهر صفر، وهنا من الملاحظ أيضاً أن الكثير من العائلات السنية في البحرين، مع غيرها من الديانات والمذاهب الأخرى، تحرص على وجود الأطباق الحسينية على موائدها للبركة، على الأقل في يومي التاسع والعاشر. هذه الروح المفعمة بالعاطفة الوطنية والمشاركة بتلقائية التسامح عند أهل البحرين الطيبين بلغت لدرجة أنك ترى في مدينة المحرق العريقة، ذات الأغلبية السنية بالإضافة إلى تجانس أهلها العرب من الشيعة والسنة، يحتوي أحد أحيائها حسينية للأخوة الشيعة من العجم (القراشية) في مكانٍ تحيط به من كل جانب بيوت لعائلات عربية سنية، يشاركهم أهلها مع الكثير من الأحياء الأخرى، بحضور قراءاتهم الحسينية رغم أنها بلغة أعجمية غير مفهمومة لديهم، كما أنهم يحرصون على المشاركة في تناول ما يعدّه ذلك المأتم من أطباق مختلفة خصوصاً طبق المرق الإيراني المميّزة. تلك الظاهرة التي تعكس نموذج التآلف والمحبة بين مكوّنات المجتمع البحريني، لم يطرأ عليها كثير من التغيير على ما أعتقد، بالرغم من كل المحاولات ذات النفس الطائفي الكريه التي مازال يبالغ في تكرارها من لا يريد لمجتمعنا المتجانس أن يتخلص من لهيب نار الجحيم السياسي التي أشعلتها شياطين (الربيع العربي). كما أنه على المستوى الرسمي، الذي يدعي البعض أنّه يمارس التمييز بين أبناء الطائفتين الكريمتين السنية والشيعية، فهناك تقدير كبيرٌ لا يخفى على أحد ومازال متواصلاً منذ قرون، حيث ان البحرين تعتبر من أكثر الدول العربية حرصاً على إعطاء مناسبة عاشوراء طابعها الشيعي من حيث إحياء الشعائر وتهيئة الأجواء المناسبة لها، بالإضافة إلى اعتبار التاسع والعاشر من محرم عطلة رسمية في البلاد، وكعادة متّبعة منذ القدم يتوّج ذلك التقدير بما يقدمه جلالة الملك حفظه الله من دعم سنوي للحسينيات، مساهمة من جلالته في تحمل تكاليف إحياء هذه الذكرى البطولية التي يختص بها الإمام الحسين باستشهاده في سبيل الحق عليه السلام. وكالعادة في التاسع من محرم في كل عام، كنت في يوم الجمعة بين مجموعة من المجاميع، التي لا يقل بينها عدد السنة من أبناء زماننا الجميل عن أحبتنا من الأخوة الشيعة، حيث نبدأ في التوافد على بيت أحد الأصدقاء منذ الصباح للحصول على لقمة البركة (عيش الحسين) عليه السلام. إن التقدير بالمشاركة الرسمية والأهلية ليست وليدة السنين الأخيرة بل توارثناها منذ أجيال سابقة، ففي الأحياء التي تتجاور أو تختلط فيها العائلات من المذاهب والديانات المختلفة ما زالت تتوثق عرى المحبة والألفة بالعشرة الطيبة، التي أساسها الاحترام والتقدير في مختلف المناسبات حتى تلك الخاصة بالأقليات من الديانات غير الإسلامية. أتمنى على كل من اعتاد على أن يكون له حضور في تلك الظاهرة المميزة لشعبنا الحبيب أن لا يستمع لأصوات الحقد الطائفي، أرجو أن لا ينساق أحد وراء التوظيف السياسي للطائفية فيدير ظهره لأخيه في الدين والوطن.