×
محافظة المدينة المنورة

الجابري يستقبل المعزين في سلطان

صورة الخبر

في غرفة العناية المركزة كان يرقد على سريره، والأجهزة الموصلة بجسده النحيل تقول، إن القلب العليل الذي كان قد توقف لبضع دقائق قد عاد ينبض بالحياة، لكن الأطباء الذين كانوا يرافقونه كانوا قد قالوا لنا، إنه غائب تماماً عن الوعي، وإن كل ما استطاعوا فعله هو أن يعيدوا النبض للقلب الذي توقف، أما ما حدث من ضرر بليغ في المخ فلا حيلة معه. لم يكن أمامنا بعد ذلك إلا الانتظار، والدعاء بأن تحدث المعجزة، واجترار ذكريات سنوات طويلة اتفقنا واختلفنا فيها على الكثير من المواقف، لكن ذلك لم يؤثر إطلاقاً في محبة لم تنقطع، وصداقة دامت، ونضال كان جمال يعرف فيه موقعه حين يتصل الأمر بالوطن، وحين يرى ما يهدر روح مصر أو تقترب من وحدة شعبها أو يسيء لجيشها ودوره الوطني على مدى التاريخ. في أول يوم خطت فيه قدماه إلى عالم الصحافة الرحب في أخبار اليوم كان لقائي الأول به. كنت- كالعادة - أستعرض الطبعة الأولى من الصحيفة مع رئيس مجلس الإدارة يومها المفكر الكبير والناقد الأدبي والمناضل السياسي الكبير محمود أمين العالم. بعد أن انتهينا استبقاني قائلاً: سألتقي شاباً أريد أن تتعرف عليه ستعتز يوماً بأنه من جيلك، لأنه سيكون نجيب محفوظ آخر. التقينا، وتعارفنا، وأهداني نسخة من أول إصداراته أوراق شاب عاش منذ ألف عام كانت الطباعة فقيرة، والأخطاء الطباعية كثيرة، ومع ذلك التهمتها في الليلة نفسها. وفي اليوم التالي كنت أناقش الراحل الكبير محمود العالم فيها، وكنت أتفق مع ما قاله بالأمس من أننا أمام ميلاد روائي عظيم. على مدى السنين لم يتوقف جمال الغيطاني عن العمل على رعاية موهبته. حتى في أصعب الأيام حين ذهب للعمل كونه مجرد عسكري يغطي حرب الاستنزاف ثم حرب أكتوبر من على الجبهة لم يتوقف عن الإبداع. وحتى عندما أصاب العطب قبله كان يحس أنه في سباق مع الزمن لقول ما يستطيع من الكثير، الذي يود أن يقوله. غيري من المتخصصين يستطيعون تحليل أعماله الإبداعية، التي وصفته في مقدمة أبناء جيل سيظل إبداعه علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي. ولكني أتوقف عند هذا المبدع الذي يبدو- في أعماله الروائية الكبيرة- وكأنه لم يغادر مهنة النقش على السجاد التي بدأ بها حياته العملية من دون أن يكمل تعليمه الجامعي. كان في كتابته شغوفاً بهذه الـنمنمة التي تجمع التفاصيل الصغيرة، وتضع فيها ما تستطيع من جمال لكي تكتمل اللوحة الأخيرة فلا تبهر عينيك فقط، وإنما تتسلل إلى أعماق وعيك تنشر الجمال الهادئ بلا صخب ولا ضجيج. ومثلما قرأ الجديد وفتن بإبداعات كبار الروائيين في العالم، كان افتنانه ليس مقصوراً على رائده في عالم الرواية نجيب محفوظ، بل أبحر في التاريخ المصري، وعانق صوفية ابن عربي، وعقلانية ابن رشد. تماماً كما استوعب كل جديد في الشعر سواء من أبناء جيله، الذين شاركوه النضال والسجن والإبداع مثل الأبنودي، أو من أساتذة كبار لم يأخذوا حقهم المشروع حتى الآن، وإن كانوا في قلب كل مبدع أصيل. أتذكر هنا أنه قبل شهور من رحيله كنا نتحدث عن الموسيقى التي كان أحد عشاقها، وعن إبداعات كثيرة يجب أن تكون حاضرة في الذاكرة القوية على الدوام، وكان المثال الذي اتفقنا على ضرورة إحيائه هو العمل الفني العظيم الذي كتبه الشاعر الكبير فؤاد حداد، ولحنه سيد مكاوي، والذي غزل فيه تاريخ مصر مع إبداعها الفني ونهوضها الوطني في عمل فريد هو من نور الخيال وصنع الأجيال في تاريخ القاهرة، التي لا يذكر الناس منها إلا أغنية العبقرية الأرض بتتكلم عربي. وأتذكر أن شاعرنا العظيم فؤاد حداد حين أهداني هذا الديوان كتب يقول لي، إنه كان رده على هزيمة 67، وإن ما قاله إن الآه لن تطول قد تحقق. وهذا هو الشاعر الحق الذي كان يعرف مصر، ويؤمن بالنصر، بينما كان الإخوان- لا غفر الله لهم- يصلون لله شكراً على انتصار إسرائيل التي زعموا، ومازالوا- أنهم جاءوا ليزحفوا عليهم شهداء بالملايين، فإذا بهم ينفذون كل مخططاتهم، حتى لو وصل الأمر للتخلي عن سيناء، التي لم تخل بقعة رمل فيها من دماء شهدائنا الحقيقيين، وحتى لو كانت الأرض نفسها- كما قال فؤاد حداد- بتتكلم عربي! ليس هذا رثاء لروائي عظيم وكاتب وطني لم يتأخر عن معركة وطنه أو قوميته، ولكنها فقط تحية وداع لصديق، وتعبير عن افتقادنا لما كنا نعتقده من أن الأفضل سيأتينا غداً، كما كان هو نفسه يؤمن ويتمنى.