تدور في فلسطين التاريخية هذه الأيام انتفاضة حقيقية، لا تقل شأناً عن الانتفاضات السابقة مع فارق في الوسائل. فالانتفاضة الأولى في العام 1987 استخدمت الحجارة، والانتفاضة الثانية عام 2000 اعتمدت الاستشهاديين والأسلحة والحجارة.. ويرفع الناس في الانتفاضة، قيد التنفيذ، الحجارة والسكاكين والسيارات في عمليات الدهس. ولدت الانتفاضة الراهنة كسابقتيها من أسباب بعيدة ومباشرة ويقودها خليط من الشبان الذين ولدوا خلال الفترة الفاصلة بين الانتفاضتين السابقتين، والجامع المشترك هو أن هؤلاء الشبان أصيبوا بالإحباط، ويرفضون الخضوع للاحتلال والحرمان والبطش والعنصرية، فما بالك إذا كان هذا الجيل قد امتلك وسائل العصر من إنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي بحثاً عن فلسطين، وكيف تمت مصادرتها، وعن ظلم أجيالها وتشرد شعبها في المخيمات، وباتت تحتل عناوين وسائل الإعلام العربية والدولية. فقد ولدت مآسٍ فلسطينية متواصلة على مدى عقود من التشرد، وتزايدت مع اندلاع ما يسمى الربيع العربي، كما في مخيم اليرموك في سوريا، في حين مازال أهل غزة منذ حرب العام الماضي يعيشون بين أنقاض منازلهم وسط يأسٍ قاتل. جيل الانتفاضة الراهنة يرى بأم العين شباناً يشعلون النار في شوارع بلدان محيطة بفلسطين ويرفعون شعارات جذابة من نوع الشعب يريد إسقاط النظام ويشعرون بالقلق من فشل البلدان التي مر عليها الربيع العربي فأطاح بدولها وجيوشها حتى صارت ضحية للفوضى والدمار. لكن الدوافع الأهم في الانتفاضة الراهنة تكمن في الطرق المسدودة التي تعترض حركة الفلسطينيين من كل صوب، ففي الضفة الغربية بات واضحاً أن السلطة الفلسطينية وصلت إلى أقصى ما يمكن الحصول عليه جراء ضبط حركة الشارع الفلسطيني، ورغم كل التنازلات التي قدمتها للعدو الصهيوني في مفاوضات عبثية استمرت لأكثر من عشرين عاماً، وجل ما حصلت عليه دولة مراقبة في الأمم المتحدة، وهي خطوة رمزية من دون مضمون حقيقي، إذ إنها محكومة بالعلاقات الدولية التي تحمي إسرائيل، وعليه يبدو أن الأثر المعنوي لهذا التطور محدود للغاية، ولا يكفي لضبط الشارع الفلسطيني. ومن جهة غزة يضيق هامش المناورة أمام حركة حماس التي انخرطت في الربيع العربي ودفعت ثمناً باهظاً جراء التغيير الذي وقع في مصر، ونسبت إليها طروحات عن هدنة طويلة الأمد مع الكيان، وإن صح ذلك فهو انسداد آخر يضاف إلى الأول، ويتقاطع الانسداد الفلسطيني مع توقف المساعي السياسية لحل المشكلة الفلسطينية. فقد غابت خريطة الطريق عن أجندة اللجنة الرباعية، وما عادت الأمم المتحدة تعتبر فلسطين أولوية في هذه الظروف، ولا تشعر الولايات المتحدة بإمكانية تطبيق حل الدولتين، ناهيك عن أنها دخلت شهوراً طويلة في كوما ما قبل الانتخابات الرئاسية. ويبقى الانسداد الأكبر من جهة الاحتلال الصهيوني وحكومة المستوطنين برئاسة نتنياهو الذي اعتقد أن الظروف العربية والدولية مواتية لاستيطان أكثر وللسيطرة على المسجد الأقصى وحرمان القضية الفلسطينية من أحد أهم رموزها. كان لابد لتقاطع هذه الطرق المسدودة أن يؤدي إلى حراك شعبي فلسطيني بطريقة مفاجئة عبر القتال بالسكاكين. علماً بأن شبان السكاكين غير معروفين بانتمائهم إلى التنظيمات المعروفة، وقد يكون هذا الأمر مفهوماً، إذا ما لاحظنا أن فتح وحماس تخضعان لضغوط عربية ودولية لا تتيح تصدرهما انتفاضة بهذا الزخم، كما أن فشلهما في تحقيق الوحدة الوطنية أسهم في نمو شعور الشباب باليأس من القيادات الحالية. والسؤال المطروح اليوم؛ ليس عن مصير الطرق المسدودة التي قادت الناس إلى إشهار سكاكينهم بوجه المحتل، وإنما عن مصير الانتفاضة بحيث لا تكون عابرة. والجواب ليس سهلاً، لا عن احتمال استمرارها، ولا عن الأهداف التي يمكن أن تبلغها، فنحن لا نعرف الشيء الكثير عن الهيكلية التي تدور فيها، ولا نعرف بشكل حاسم إن كانت قابلة للتوقف بضغوط خارجية أم أن حركتها البنيوية مستقلة. الواضح في هذا الجانب أن استغاثة بنيامين نتنياهو وتوسله الإدارة الأمريكية للضغط على السلطة الفلسطينية، حتى تضبط مناضلي السكاكين يفصح عن خوف حقيقي من حجم الغضب الفلسطيني، الذي يعرف المحتل حجمه وقوته أكثر من أي طرف آخر، وما استدعاء السفير الفرنسي في تل أبيب إلى مقر رئاسة الوزراء احتجاجاً على نقاش اقتراح في مجلس الأمن بإرسال قوة دولية لحماية الأقصى، إلّا دليلاً على الزخم الذي تتمتع به انتفاضة السكاكين، وعن احتمال جدي بدوامها واتساعها.. لكن من أجل أية أهداف. الراجح أن يكون الهدف الأكبر هو دولة فلسطينية خلال مدة زمنية منظورة على مجمل أراضي 67. نحن نعرف أن الانتفاضة الأولى أدت إلى عودة منظمة التحرير الفلسطينية إلى الضفة وغزة، وأدت الانتفاضة الثانية إلى انسحاب إسرائيلي من غزة، وتفكيك مستوطناتها هناك، وصولاً إلى الدولة المراقب في الأمم المتحدة، وعليه من غير المتوقع أن يكون هدف الانتفاضة الراهنة أقل من الانسحاب من أراضي الدولة المستقبلية، وتثبيت أركانها أو على الأقل إرسال قوات دولية لحماية الشعب الفلسطيني من الإبادة تحت الاحتلال. لا ينظر المراقبون الصهاينة إلى انتفاضة السكاكين من هذه الزاوية، فهم يأملون كما في المرات السابقة أن تتدخل قوى دولية وإقليمية لوضع حد لها بوسائل خارجية وفلسطينية، وإذا كانت الوسائل الخارجية مرجحة ومحتملة، فلا نرى مصلحة لعباس في وضع الغضب الفلسطيني على ظهره، خصوصاً أن لا وعود يطلقها لشعبه لقاء وقف مقاومته. أكبر الظن أن عباس قد لا يلعب دور قائد انتفاضة السكاكين لكنه على الأرجح لن يقدم خدمة لنتنياهو بقمعها وضبطها لوجه الله. fjalloul3@yahoo.fr