يصعب وصف الوضع الاقتصادى الراهن بأنه مجرد سحابة عابرة يمكن التعامل معها بذات الأسلوب والأدوات التى اعتمدت عليها الدولة فى الفترة الأخيرة وأدت إلى تفاقم الأزمة. ولا أتحدث هنا عن الاضطراب فى سوق الصرف الذى استحوذ على الاهتمام الاعلامى أخيرا، فهذا عارض وليس مرضا، بمعنى أنه يعبر عن المشكلات الأعمق فى إدارة الاقتصاد وعلى رأسها ضعف معدلات الاستثمار والتصدير والتشغيل، وارتفاع الدين العام الداخلى والخارجى معا، والأهم من ذلك كله عدم وضوح السياسة الاقتصادية التى تنتهجها الدولة والاتجاه الذى تنوى أن تسلكه. أما من جهة المواطن فإن الارتفاع المضطرد للأسعار وبالذات المواد الغذائية، والتدهور المستمر فى الخدمات العامة، وندرة فرص العمل هى المؤشرات الحقيقية لأداء الاقتصاد المصرى وتفوق فى أهميتها أرقام النمو والاحتياطى والدين العام. يمكننا بالطبع أن نلقى باللوم على تباطؤ التجارة العالمية، أو المؤامرات الكونية، أو الظروف الاقليمية. ولكن لا شىء من هذا يكفى لتفسير تدهور الوضع الاقتصادى بهذه السرعة فى الشهور القليلة الماضية -- زياد بهاء الدين. ويمكننا أيضا أن نطالب بالإطاحة بوزير تلو الآخر وحكومة وراء الأخرى كلما بدا أن هناك تقصيرا أو تباطؤا، أو كلما هبت وسائل الإعلام مطالبة بتغيير فورى. ولكن خطورة الوضع الراهن تحتم علينا التوقف وإعادة تقدير الموقف والعمل على بناء الحد الأدنى من التوافق حول بعض الأولويات الملحة بدلا من البحث عن كبش فداء أو السعى لإرضاء الظمأ الاعلامى لضحية جديدة. وإليكم ما أقترحه: على المدى القصير يلزم أن تحسم الدولة أمرها فيما يتعلق بعدة أمور لا تزال غامضة وتثير قلقا مستمرا فى المجتمع الاستثمارى، وعلى رأسها ما تنوى أن تفرضه من ضرائب ورسوم جديدة فى الأجلين القصير والمتوسط، ومستقبل تسعير الطاقة، والاتفاق المرتقب مع البنك الدولى وما يتضمنه، وأخيرا وليس آخرا الإجراءات التى تنوى اتخاذها للتعامل مع مشكلة سعر الصرف. وحتى لو كانت بعض هذه القرارات صعبة وذات تكلفة على المجتمع، فإن الغموض فى كل الأحوال أكبر ضررا من الحسم لأنه يدفع إلى توقع أسوأ الاحتمالات -- زياد بهاء الدينويصيب حركة الاستثمار والإنتاج بالشلل التام. ويرتبط بذلك ضرورة أن يكون هناك اتفاق كامل بين أعضاء الحكومة على موقف مشترك لأن التضارب فى تصريحات المسئولين يفقد السياسة الحكومية مصداقيتها. أما فى موضوع سعر الصرف، فيلزم ألا يصدر بشأنه تصريحات أو توقعات إلا من البنك المركزى وحده لأنه موضوع يتأثر سلبيا بكل شائعة وكل تصريح غير محسوب. على المدى القصير أيضا فلا مفر من مراجعة عدة قرارات خاطئة تم اتخاذها فى الفترة الاخيرة والاعتراف بذلك بشجاعة -- زياد بهاء الدينبدلا من الإصرار على التمادى فيها. لم يعد محل نقاش أن قانون الاستثمار الصادر وقت مؤتمر شرم الشيخ كان خطأ كبيرا لأنه زاد من تعقيد المناخ الاستثمارى، وفتح بابا واسعا للفساد والتلاعب فى تخصيص الأراضى، ووعد المستثمرين بما لا يمكن تحقيقه. وهناك اتفاق بين خبراء القانون والاقتصاد والأعمال على أنه أعادنا إلى الوراء عشرات السنوات، فلماذا لا يتم إلغاؤه؟ وكذلك الأمر بالنسبة لسياسة ترويج الاستثمار عالميا دون اعطاء الأهمية الكافية أو حتى المماثلة للمشروعات الوطنية الصغيرة والمتوسطة والمناطق الصناعية القديمة وجمعيات المستثمرين المحلية التى تمثل عشرات الآلاف من المنتجين الصغار. أما على المدى الأطول فمن المفيد أن يعاد النظر فى جدوى الاستمرار فى المشروعات القومية العملاقة -- زياد بهاء الدين، خاصة فى ظل الغموض المستمر والتضارب فى تصريحات المسئولين حول تكلفتها، وأثرها الاقتصادى، ومصادر تمويلها، وآليات تنفيذها. لا أحد يكره أن يكون لمصر عاصمة جديدة، ولا أن يُضاف إلى رقعتها الزراعية ملايين الأفدنة. ولكن فى ظل ندرة الموارد، ووجود احتياجات ملحة فى كل مجالات الانفاق الاجتماعى، والحاجة لرفع مستوى المرافق العامة القائمة، فلابد من اعادة النظر فى الأولويات، وأن يكون هناك حوار فى المجتمع حول جدوى تلك المشروعات، وما يُنفَذ منها الآن وما يجدر إرجاؤه أو حتى صرف النظر عنه. كذلك فلابد من العودة لملف العدالة الاجتماعية الذى أصابه الكثير من الاهمال والخمولبعدما ظل طوال السنوات الأربع الماضية المطلب الواضح والمتكرر لدى الشعب المصرى. فبعدما كان يمثل الشاغل الأساسى للدولة كلها، عاد ملفا لا تتابعه إلا وزارتا التضامن الاجتماعى والتموين من خلال الأدوات المتاحة لهما وهى المعاشات والتأمينات الاجتماعية من جهة وبطاقات التموين ودعم السلع الغذائية من جهة أخرى. وهذا لا يكفى لتحقيق الطفرة التى ينشدها الناس. يجب الانتقال من مفهوم التضامن الاجتماعى عن طريق منح معاشات إضافية ومواد تموينية مدعومة إلى مفهوم الحماية الاجتماعية الشاملة التى تمنح المواطن فرصة التأهيل لسوق العمل والتعليم المناسب والرعاية الصحية والفرصة للمنافسة والتقدم، ثم تأتى وسائل الضمان الاجتماعى بعد ذلك لكى تحمى الضعفاء ومن لا تتوافر لهم ظروف العمل والمنافسة. وقد بذلت الحكومات المتعاقبة جهودا كبيرة فى هذا الموضوع ولكن إعادة الاهتمام به يحتاج لقرار سياسى باستكمال هذا المسار الذى يجرى الإعداد له منذ سنوات. وأخيرا، سواء على المدى القصير أو الطويل، فإن هناك ضرورة لتوسيع دائرة الحوار المحيطة بصانعى القرار سواء فى القصر الجمهورى أو فى مجلس الوزراء. ولا أتحدث هنا فقط عن ضرورة الاستعانة بالخبراء المصريين المعروفين فى مصر وخارجها ممن يمكن أن تكون لهم إضافات قيمة، ولكن الأهم من ذلك أن يكون الحوار مؤسسيا. السياسة الاقتصادية لا تتحدد فقط بمجموعة من الأشخاص المحيطين برئيس الجمهورية مهما بلغت كفاءتهم، بل بالحوار بين الدولة وبين اتحاد الصناعات، والاتحاد العام للغرف التجارية، وجمعيات المستثمرين، والاتحادات المهنية، والنقابات العمالية، والاحزاب، ومنظمات المجتمع المدنى. كل من هذه الكيانات يمثل قوة فى المجتمع ومصلحة يجب الإنصات اليها وإشراكها فى صنع القرار وإلا تحول الجميع إلى متفرجين ينتظرون ما تقدمه لهم الدولة من مفاجآت بينما السياسة الاقتصادية السليمة يجب أن تتحدد بمشاركتهم ودعمهم وبما تعبر عنه من توازن بين مصالحهم.