يجاور الكاتب السوري هيثم حسين في روايته الجديدة «إبرة الرعب» (منشورات ضفاف - بيروت والاختلاف - الجزائر) بين شخصيات محكومة بنشوة غريبة تتحكم في حياتها، وتقترح المسالك التي تخوضها. نشوة تحولت صورة أخرى عن الشخصية نفسها، تعكس مزاجها وتعبر عن طموحها، وتلعب دوراً في مصائرها وترسم المآل الذي تنتهي إليه. تكمن نشوة رضوان، الشخصية الرئيسة في الرواية، مثلاً في التلذذ باللحم الطري واختباره بطرق مختلفة، وتتطور هذه النشوة وتتفجر في أشكال لم تخطر له على بال، وتتماثل نشوة الدكتور فتاح مع نشوة العقيد علاوي، حيث المال كل شيء. نشوة كريزو، حكاء القرية، تكمن في سرد القصص. أما نشوة والد رضوان فتتمثل في الصمت. شخصية أم حوشابا لها نشوتها أيضاً، والتي تكمن في الانتقام من الماضي. يختار هيثم حسين لروايته شخصية لا تنقصها الغرابة ولا تخلو من هوس، تعاين عالمها وتلم بوقائعه، من خلال إبرة الرعب، التي تتيح لرضوان إشباع جوعه الى الجنس، وحينما تغدو أداة شريرة للانتقام من أولئك الذين آذوا والده ودفعوه إلى الصمت ثم الموت، وترد اعتباره في القرية جاعلة له مكانة لا ينافسه فيها أحد. عبر إبرة الرعب يكشف رضوان عن اعتلال الجسد الأنثوي، ويفضح حياته المقموعة. يتعاطى رضوان الممرض الذي لم يدرس التمريض، مع نساء مهجورات يفتقدن الإشباع في العلاقة الجنسية، شبقات يلهثن لملامسة حانية وشبقة في آن. تتفشى عدوى التمارض بين نساء القرية، ويتحول اختبار الحساسية، الحيلة التي تُجبر النساء على الامتثال لها، مطلباً أساسياً لهن، يصررن عليه قبل أن يأخذن الحقنة، وعندها تجوس أصابعه أنحاء الجسد، تغوص في لحم منسي، لم تجد نداءاته من يصغي إليها. أضحت الإبرة عشقه ونقطة تعلقه بالعالم، وأداته لهتك أسرار القرية. ينفذ هيثم حسين إلى ما وراء الغرف المغلقة، وما خلف أبواب العيادات في مستوصف، حيث كان عليه أن يؤدي خدمته الإلزامية، وفيه تمارس الأعمال غير المشروعة، وينقلب علاج المرضى ومحاولة شفائهم إلى تعطيل حياتهم وسلب أعضائهم السليمة. يتخطى الدعة التي تسم حياة قرويين إلى ما تعنيه من وعي ساذج يعيش على الخرافات، قرويون تسلِّيهم الحكايات، يتفنن في حكيها كريزو، الذي يجد لذة لا تقل عن اللذة الجنسية في التفتيش عن أبطال لحكاياته، لتنتشله من الهامش وتبقيه في مركز اهتمام القرية. بالمثابرة حصل رضوان على لقب الممرض، هو الذي لم يكمل تعليمه ولم يتعلم أية صنعة، حتى سيق إلى الخدمة العسكرية الإجبارية، وهناك حالفه الحظ فجاء فرزه في قطعة طبية كحارس ضمن المجموعة المكلفة بالحراسة، ليجد الفرصة سانحة لتعلم التمريض وكيفية حقن الإبر. لم يأبه رضوان لأي ميثاق يتعلق بالتمريض، فهو يكتسب علومه خارج الأطر كلها. عندما يستلم المؤخرة، التي تربطه بالعالم، لأجل حقن الإبرة، يتحول إلى آخر. ينزع عنه أقنعة طالما تحايل بها على القرويين، ويلبس الحقيقة التي يسعى إليها، وتروي حقده على مجتمع غارق في الدعة والفساد. ينأى هيثم حسين عن المباشرة، ويعمد إلى مقاربة الواقع عبر بنية معقدة وبسيطة في الوقت نفسه، تنهض على لغة تتشكل في مستويات تكثف من الوقائع وتختزل دلالات متعددة. ولئن طغى ضمير الغائب، فإنه يترك بين حين وآخر هامشاً واسعاًَ للشخصيات لتقول همومها وتبوح بأسرارها. يحدد هيثم حسين بدقة تضاريس الشخصية، ويلجأ إلى التأمل والتفلسف وإلى لغة حسية تثري النص وتضفي التنوع على مناخاته. وتختلف شخصيات الرواية من شخصية إلى أخرى لناحية مستوى الوعي واتساع الخبرة في الحياة أو عدمها، فمن قرويين بسطاء لا يفرقون بين بيروت الغربية أو الشرقية، إلى ضابط كبير، قضى ردحاً طويلاً في ميادين العمل العسكري، إضافة إلى طبيب هجر ضميره للوصول إلى غاياته الشريرة، ومن هذه الشخصيات السمسار، ونضال - الشاب المثلي الجنس - الذي سيجد ضالته في خدمة رضوان وسيغرقه باللذة والنقود، قبل أن يودّعه تاركاً إياه يواجه حياته وحيداً، غير أن رضوان يعثر عليه ثانية لكن بعد أن يكون أجرى عملية تغيير لجنسه، وراح يواجه ردود فعل المجتمع الذي ثار عليه. يتعرف رضوان، الذي اعتاد العزلة ويجد راحة في البقاء وحيداً، على العالم ويكشف سواتره عبر المؤخرة. طور قدرة على تحليل نفسية كل امرئ، واستطلاع خباياه، من خلال هذا الجزء من الجسد. من دون مطهرات أو كحول، يفض غموض صاحبها ويفضح المشاعر التي تخالجه. يحقن من دون وخز أو ألم، ويصبح الحقن الغاية التي يسعى إليها الجميع، فهو يشفي ويداوي. «بدايته تصلب واشتداد، وختامه إفراغ وانتشاء وارتياح... يبدأ بشهقة ويختم بشهقة مشابهة، يبدأ بآهة ويختم بتأوّه». يكشف رضوان، من ناحية أخرى، ويكتشف الفساد في المستوصف الذي شهد خدمته الإلزامية وتعلم فيه حقن الإبر. هناك سيتعرف إلى العقيد علاوي، الضابط المعاقب بالفرز إلى مستوصف منسي، يبيع معظم الأدوية فيه لصيدليات يتفق معها، ويستخدم رضوان عوناً له، إذ يقوم بالتوزيع ويقبض الثمن. وفي مستوصف آخر، يعثر فيه على عمل بعد أن ترك القرية إثر خطأ طبي، سيعرف الكثير عن سرقة الأعضاء من مجانين أو أشخاص مجهولين لا أحد يسأل عنهم، أو سجناء محكوم عليهم بالإعدام وبيعها للمرضى المقتدرين، ولا تكتمل صورة الفساد من دون كشف عمليات الإجهاض وممارسة الجنس مع المريضات، وأحياناً مع جثث الموتى. يهندس مقترفو هذه الأعمال الوحشية حججهم، ويختلقون المبرر ويفلسفون الدافع أحياناً لسرقة الأعضاء، بجمل براقة مثل «التكامل بين العقل والجسد»، أو «تصحيح الخلل في الطبيعة»، و «إعادة الحقوق إلى أصحابها»، أو «التوزيع العادل للأعضاء» و «تطهير المجتمع من العالة». لا يتوانى محمود المخدر الذي يقوم بالسمسرة عن البحث عن فرائس يقدمها لطبيب بلا ضمير. لا تفضح «إبرة الرعب» خبايا المستوصف، إنما أيضاً تذهب إلى تقديمه بوصفه عينة من فساد أكبر يتخطى العقيد علاوي والدكتور فتاح. فعندما يقبض على رضوان ويزج به في سجن مظلم، يُعطى أوراقاً وأقلاماً ويطلب منه كتابة كل شيء مرّ عليه، منذ الولادة إلى اللحظة الراهنة، فيجدها فرصة للانتقام من أولئك الذين يتلاعبون بمصائر المرضى، متخيلاً نفسه منقذاً ويبالغ في تخيلاته، معتقداً أن مسؤولي السجن سيكونون صارمين في تعاملهم مع القضية، بيد أنهم يفاجئونه عندما يأمرونه بنسيان كل ما كتبه، لأنه، وفقهم، محض افتراء، ويقومون بإيهامه أنه لولا أولئك الشرفاء، علاوي وفتاح، للبث حبيس فخّ المنسيين في السجن. يتوسل هيثم حسين فضاء بدا منغلقاً على قرية بسيطة ومستوصف منسي، إلا أن أشكال الفساد وطبائع الشخصية التي يجسدها رضوان، وعلاقتها بالشخصيات الأخرى، نقلت الرواية من تلك المنطقة الضيقة وما تؤشر إليه من معان محدودة، إلى عالم أرحب، وفتحت الباب واسعاً على احتمالات تشمل المجتمع بكامله.