×
محافظة المنطقة الشرقية

بلقاسم: عرفنا كيف نكسبهم روابح: افتقدنا إيفولو وأعتذر

صورة الخبر

من الصعوبة بمكان، أن نجد في عالم اليوم مجتمعاً لم تهيمن عليه الروح الاستهلاكية. ونقصد بالروح الاستهلاكية؛ ليس استهلاك المجتمع حاجاته الأساسية التي دونها لا يمكن للحياة أن تستمر، وإنما استهلاكه المنتجات والخدمات التي بها أو دونها لا تتوقف الحياة. تلك الروح التي تجعل من إنفاق المال لا يقابله بالضرورة أي مردود تنموي ولا منفعي ولا ثراء روحي للمُنفقِ نفسه كفرد ولا للمجتمع ككل، لا سيما أن طغيان هذه الروح غدا سمة من سمات الاقتصاد الرأسمالي المعاصر، وظاهرة من مظاهر العولمة. ففي ظل الانفتاح التجاري العالمي وسقوط الحواجز الجمركية وغير الجمركية، لم يعد هناك مجتمع نقي خال من تغلغل الروح الاستهلاكية وسيطرتها على سلوك قطاع كبير من أفراد المجتمع، يزيدها ويعمقها مقدار تبعية الاقتصاد المحلي للاقتصاديات الخارجية، واعتماده عليها في تلبية جميع احتياجاته. فعجز المجتمع عن إنتاج مستلزماته الأساسية محلياً، يجعله غير قادر على حماية نفسه، ولا على مواجهة أي غزو مهما كانت طبيعته. ويتاح للمُصدر الخارجي التي تلتقي مصالحه مع البائع المحلي -في زيادة المبيعات- التدخل في نمط معيشة هذا المجتمع وسلوكياته الشرائية، من خلال حملات الدعاية والتسويق الذكية الموجهة نحو أفراده كمستهلكين، الذين بدورهم يخرون أسرى لهذه الحملات دون مقاومة تذكر، فتتعمق لديهم الروح الاستهلاكية وتلتصق بهم لدرجة تشبه الإدمان. وهذا ما يجعل بعض المجتمعات تتبارى في تماهيها الشكلي مع مجتمعات تٌطبق على أنفاسها نفس النزعات. وقد أشار الدكتور عبدالرحمن التويجري في مقاله «التكاليف الاقتصادية لأسلوب معيشتنا» «الشرق عدد 721»، إلى أن نزعاتنا الاستهلاكية تقف وراء عدم تبنينا -كمجتمع سعودي- سياسة الادخار التي يضعها كمخرج من الوقوع في براثن الحاجة. كما يذكرُ في نفس المقال أن إحدى نتائج الإيغال في الاستهلاك؛ تركز الثروة «في نسبة قليلة من مكونات المجتمع خاصة المالكين لأصول عقارية». وهذا يعني أن المستفيد الأكبر من تنامي الروح الاستهلاكية في المجتمع السعودي طبقة اجتماعية معينة تحيا وتترعرع على حساب هيمنة هذه الروح التي تؤدي إلى عجز المواطن -المستهلك- على توفير جزء من دخله. وبكلمات أخرى لو أن هذا الفرد توقف أن يكون استهلاكياً لما تركزت الثروة في أيدي هذه الفئة القليلة العدد، ولكانت الثروة أكثر انتشاراً أو توزعاً بين عناصر المجتمع. وهي -الثروة- حينما تكون كذلك فإن الفوارق الاجتماعية بين مجموع أعضاء المجتمع تتضاءل، مما يعطي للطبقة الوسطى الفرصة للتمدد والاتساع. بينما تركز الثروة في أيدي مجموعة صغيرة من شرائح المجتمع المتعددة، يقابله وجود عدد كبير من أعضاء المجتمع لا يمتلكون من الثروة ما يمنحنهم القدرة على مواجهة مقتضيات الحياة اليومية «دون تعثر» بمداخيلهم المحدودة والمتآكلة بفعل عوامل اقتصادية أخرى، فكيف لهم أن يدَّخروا من هذه المداخيل؟! كما يمكن لتركز الثروة بهذا الشكل أن يؤدي إلى تضاؤل الطبقة الوسطى، وهي الطبقة التي تحُسب كصمام أمان في الحفاظ على السلم الاجتماعي. فعيش هذه الطبقة في رغد ورخاء وتقدير، يضعف من فرص نشوب الاعتراضات والمواجهات الاحتجاجية، التي حين اتساعها وتأججها قد تلحق أضراراً بالهيكلية الاجتماعية القائمة. كما أن هذه الطبقة حينما تلمس بأن وجودها الاجتماعي أصبح مهدداً، وأنها تتعرض للتهميش والتآكل بسبب تركز الثروة والإهمال الحقوقي، فلن يكون مستغرباً أن تتحرك لتعطيل عوامل إضعافها، ووقف مسببات تدميرها، ويدفع بها للاقتراب من القوى الاجتماعية الأخرى المتضررة من الواقع الاقتصادي والحقوقي القائم، حينها ستتبخر مساعي تحييدها وإبقائها بمعزل عن المشاركة النشطة في التحركات الهادفة لتعديل التنظيمية الحقوقية القائمة. إن مواجهة تعمق الروح الاستهلاكية بين أفراد المجتمع السعودي والتقليل من انعكاساتها على المجتمع ككيان واحد لا تتحقق من خلال تبني سياسة ادخارية لمجموعة أو مجموعات من أفراد المجتمع، بل من خلال انتهاج سياسة تنموية إنسانية تحمي المواطن من العوز والحاجة، وتكون قادرة على تخليصنا من التبعية العميقة الجاثمة علينا، ومن الاتكالية المفرطة التي ترعرعت جراء سياسة الفصل بين الجنسين في جميع مرافق وأنشطة حياتنا.