×
محافظة المنطقة الشرقية

سيطرة إماراتية في الهجن

صورة الخبر

تشغل فكرة الزمن رواية اللبناني حسن داوود الأخيرة "نقّل فؤادك" على نحو يبدو وكأنه موضوعها الأساسي، ومع أنها مثل رواياته السابقة لا يقيم المؤلف فيها كبير وزن للحكاية أو الحبكة، قدر ما يتبع الحركة، حركة شخوصه وحركة المكان، غير أن التشابك بين الزمن كخطاب والزمن كمسار سردي يصبح هنا أكثر وضوحاً. عنوان الرواية "مقتطع من قصيدة معروفة ومتداولة لأبي تمام" نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى/ ما الحب إلا للحبيب الأول/ كم منزل في الأرض يألفه الفتى/ وحنينه أبداً لأول منزل". غالباً ما يستخدم هذا البيت كبرهان على عدم الإخلال بالعهود، فهي أبيات تؤشر إلى قيم الوفاء للسعادة المنتهية، وهذه السعادة تقبع في الماضي الذي ينبغي أن لا يمضي أو يمحى من حياة الإنسان لأنه مصدر استمراريته. الجملة الأولى من القصيدة التي تصبح عنواناً لرواية حسن داوود، تدفع إلى التصوّر بأن العمل سيكون عن قصة حب أو مرثية حب انتهى، ولعل الحكاية التي يتحرك ضمن محورها البطل تقول ما يشبه هذا، ولكنها تجري في خط يوازي حياة رتيبة تكاد تغبش أمامها كل الذاكرات، لأن البطل الذي يدخل في أزمة العمر تصبح الذاكرة مرادفة لاستمراره في الحياه: "ما كنت أجمعه في ذاكرتي ليكون زادي في ما سيأتي من الأيام، لأعيشه مرة ثانية، بل مرات أخرى بعد أن أعجز عن عيش سواه، ها هو يبدأ بالضمور". قاسم الصحافي الذي قارب الستين مقبل على عمل في صحيفة جديدة بتقنيات وتمويل وإيقاع يختلف عن تجربته في الصحافة التي تمتد لسنوات خلت، وهو يتحرك في مربع ما أُطلق عليه "وسط البلد" أي بيروت الحديثة، وفي ذهابه وإيابه إلى مبنى الصحيفة التي يجري التحضير لصدورها، يرقب ما يظنه زمنه الراحل حرفة وطريقة حياة. يرى إلى حركة العمران وتغيرات المواقع، وكأنه يستكشف وجه مدينته التي لا تشبه ماضيها: "كل شيء جديد هنا. حتى بوابة الحديد القديمة تلك، حتى الحجارة السوداء التي بلطوا بها الطريق ليذكّروا بأن الطريق كانت مبلّطة بالحجارة السوداء قبل مئة عام". يلحظ حركة ثلاث فتيات آسيويات يتشابهن في الخلقة مثل دليل على تكرار يبدو وكأنه يشغله عن فراغ هذا المكان داخلة وفقدانه معنى وجوده. يتجاوز وقته العبثي وقت غربته عن المدينة والصحافة التي لم يألف تقنياتها وأساليب عملها، بالتجوال بين سوق مجاورة ومقهى ينتظر الإغلاق. صديقته سعاد تنوب عنه في البحث عن أثر دلال الفتاة الفلسطينية التي كانت حبيبته أيام الصبا والمراهقة عندما كانا على مقاعد الدراسة ثم رحلت وعائلتها إلى الأردن. لعل هذا البحث تصبح له وظيفة تناظرية في حضور الأزمنة على هذا النحو المركّز، فزمن خريف العمر يكتسي بعداً مركّباً يجمع كل الأوقات بما فيها أوقات الحب التي انتهت. لكن البطل لا يبدو على حماس يوازي حماس صديقته في هذه اللعبة ولا على يقين من ذكرياته عن الحب، فهو في الأصل غير مدرك شكل تلك الحبيبة المهاجرة أو صورتها الحقيقية، ربما يتذكر قطعة من ملابسها أو أصبعا من أصابعها فملامحها غائمة واسمها هو الذي بقي، ويكاد يكون ضائعاً بين أسماء كثيرة تصل المدينة وتغادرها. لعله يريد الوصول إلى صديقته الساعية لاستعادة تلك الذكريات، ليدرك كنه أفعالها ومشاعرها عبر هذه القصة التي تبدو مختلقة. الذي يلاحظ خط الذكريات في منلوج البطل يرى بسهولة ما تعنيه نقطة الانطلاق في توجيه الوظيفة السردية نحو هدف يحاول ملامسة الأزمنة الناقصة عبر الأزمنة الموشكة على الأفول، فالصدفة التي تحرك أفعال البطل تحدد علاقته بالأشياء، فهو يختصر موقفه من الحب بجملة دالة: "هكذا هو الحب يا وائل، أن ننتظر أن يحصل شيء من تلقائه. أن ننتظر شيئاً من دون أن نبادر إلى شيء". فعل المبادرة الذي يفتقده البطل، يسير بموازاة وقت الانتظار المتطاول على الزمن، حيث تمكّنه الشيخوخة من أن يصبح أشد وضوحاً. ندرك عبر هذه النوفلا التي تخلو من التشويق، كيف يصبح للزمن وظيفة تتعدى تحديد تحولات التجربة الإنسانية إلى اعتبارها تدور داخل الزمن النفسي، وحول مركز يكاد يكون فارغاً أو مفرغاً من قيمتها، فالماضي لم يتلبس صورة اليوتوبيا ليبرر التوتر بينه وبين الحاضر أو المستقبل، فهو يجري على نحو يضعه البطل هناك في الذاكرة التي يستحثها كي لا تعطل. بمقدورنا الإمساك بزمن السارد في هذه الرواية على أنه الماضي غير المكتمل أو الناقص، لأنه يكاد يكون غير واضح المعالم لصاحبه، فهو يتخيل ما كان عليه الموقف حين يدخل قصة ساهم في صنعها صديق الطفولة، فقد أشار جابر زميله في الدراسة إلى شباك الحبيبة حيث بقي البطل لا يعرف موقعه تحديداً: "شوف.. هي واقفة على الشباك.. واقفة إلك". تجربة الحب التي تراود أطيافها البطل، تضمر رغبة العودة إلى الحلقة الضائعة في خريف العمر، حيث يمكث ميقاتها بعيدا في الاندفاعات الساذجة لعنفوان ما يسمى الصبوات الأولى. الوقوف على أطلال المكان والسلّم الذي يرتقيه إلى البيت الصامت من أهله، يناظر اكتشافه المتأخر عمران المدينة ومعالمها القديمة الموشكة على الأفول، ولكن هذه العلاقة لا تدفع إلى التصور بمفاضلة بين زمنين، فهي لا تستدعي تراجيديا العواطف أو تصعيد الحنين. هناك علاقة وثيقة في هذه الرواية بين زمن المدينة المتحرك، وزمن التجربة اليومية الذي تظهر وظيفته في أفعال اللغة، اللغة الواصفة التي لا يدفعها الحماس إلى خلق انفعال أو توليد فضول، فهي غير معنية بالبحث عن العلاقات التفاعلية بين النص ومتلقيه، فما يستوعبه الذهن لا يدفع سارده إلى تحفيز قوة الانفعال المشترك، فبدا الراوي وكأنه يخاطب نفسه دون جهد لتجسير العلاقة بينه وبين قارئه. تضاف هذه الرواية إلى ضرب من النشاط السردي لحسن داوود الذي يحاول المضي وعبر الكثير من أعماله، إلى تنظيم وترتيب المدلولات البسيطة للأفكار والقيم ومرئيات الأشياء، على نحو لا يتجه اتجاهاً تشيخوفياً، ولا كافكويا، إن جاز لنا تحديد انتسابات، ولكنه لا يخلو من شجن وإحساس مضاعف بالاغتراب. هذا النوع من القص يبقى مكتفياً بذاته كمن يحرث أرضاً عصية يصعب تطويعها.