لأن طبيعة المواجهة، سياسيَّا وعسكريَّا، قد تغيّرت وتبدّلت بعد التدخل الروسي الذي من الواضح أنه سيزداد وسيتعاظم وسيتّخذ أشكالاً أكثر خطورة. وكذلك، ولأنه لا بد على المدى القريب أو البعيد من أن يكون هناك حلٌّ ستُمليه أو على الأقل ستؤثّر فيه موازين القوى المستجدة، فإنه لا بد، بل من الضروري، أن تبادر المعارضة السورية، المعتدلة طبعًا، إلى التخلص من حالة التشرذم هذه التي تعيشها الآن، والتي إن كانت مقبولة ومحتملة في السابق وعلى مدى نحو أربعة أعوام متواصلة، فإنه لم يعد مقبولاً ولا محتملاً أن تستمر وتتواصل بعد كل هذه التطورات الخطيرة فعلاً وبعدما أصبحت الأمور على ما هي عليه. لا يجوز على الإطلاق، وقد غدت «الثورة السورية» مهددة بوجودها، وأصبحت هناك ملامح حلول مطروحة، بعدما طرأ واستجدّ هذا العامل الروسي الخطير، تشير كلها، إنْ لم تتوحّد «المعارضة» عسكريًا وسياسيًا وتفرض نفسها وإرادة شعبها على الأحداث، إلى أن هناك انتكاسة قادمة لا محالة، أقلّها أن تثبِّت روسيا وبالقوة وبالحديد والنار بشار الأسد إلى ما بعد انتخابات رئاسية جديدة قادمة. إنَّ هناك من يقول، إن عدد فصائل المعارضة، المعتدلة بالطبع، قد وصل إلى أربعين فصيلاً، وهذا غير «داعش» و«النصرة»، وبعض التنظيمات «المايكروسكوبية» الصغيرة غير المتداولة أسماؤها في وسائل الإعلام. وحقيقة، إن هذا التشرذم إن هو استمر، فإنه سيكون على حساب دماء مئات الآلاف من «الشهداء» والجرحى والمعتقلين والمفقودين، وعلى حساب ملايين المُهجّرين واللاجئين الذين لم يدفعهم إلى مرارة ما يكابدونه إلَّا الأمرّ منه، والذين قد تصل أعدادهم إلى أضعاف أضعاف هذه الأعداد الفلكية الحالية المرعبة. إنه لا يجوز أن تستمر هذه الوضعية المربكة على الإطلاق؛ فالدول الداعمة، العربية وغير العربية، تريد جهة واحدة تتعاطى معها، وكذلك فإن المواجهة المتصاعدة مع جيوش نظامية يوفّر لها الروس الحماية الكافية من الجو لا يمكن أن تكون فاعلة ومجدية في ظل هذا التشرذم الذي أغرى، وسيغري أكثر أطرافًا وجهات خارجية كثيرة على المزيد من التدخل والمزيد من التلاعب في الشؤون الداخلية السورية. الآن، تغيّرت المعادلات فتغيّرت طبيعة المواجهة، وتغيّرت أساليب وطبيعة الاشتباك، ولذلك فإن النتائج ستكون بالتأكيد كارثية إنْ لم تسارع المعارضة، المعتدلة بالطبع، إلى إعادة ترتيب صفوفها وإلى الاتفاق على برنامج الحد الأدنى، عسكريًا وسياسيًا، وإلى أن تصبح هناك قيادة واحدة يكون القرار الأول والأخير قرارها على الصعيد العسكري وعلى الصعيد السياسي وتخاطب شعبها، الشعب السوري، والعرب والعالم بلغة واحدة وكل هذا على أساس برنامج الحد الأدنى الوطني الذي يشكّل النقطة التي تلتقي عندها كل التنظيمات والفصائل ويوافق عليها ويدعمها الجميع. لقد أصبح هناك الآن «حلف بغداد الجديد» الذي يضم - بالإضافة إلى روسيا، الدولة الكبرى أو العظمى - إيران التي غدت تحتل دولتين عربيتين احتلالاً مباشرًا، والذي يضم أيضًا النظامين العراقي والسوري وإلى جانب هؤلاء كلهم حزب الله اللبناني الذي كان أول المنخرطين في المعركة إلى جانب نظام بشار الأسد الذي خُصص له محورٌ رئيسي في الهجوم الذي تقرر شنَّهُ وتنفيذه ضد الجيش الحر وفصائل المعارضة بمشاركة باقي ما تبقّى من قوات هذا النظام وقوات الحرس الثوري الإيراني، وأيضًا القوات الخاصة والقوات الجوية الروسية. وهذا يتطلب، مرة أخرى، أنْ تتخلّص المعارضة الوطنية السورية، ومن ضمنها الجيش الحر بالتأكيد من حالة التشرذم هذه المربكة؛ إذ إنه غير جائز بعد هذا الاصطفاف الأخير الجديد على جبهة الخصْم أو العدو أنْ يبقى «الثوار» يتوزعون على نحو أربعين تشكيلاً كل تشكيل له قواته وقيادته وله تحالفاته الخاصة ويقاتل في المعركة منفردًا ومن دون أي تنسيق مع الآخرين، وإنْ على أساس الحد الأدنى. وهنا، وحتى لا يُفهم هذا الموقف ولا تفهم هذه الدعوة على أنهما تحامل مقصود هدفه الإدانة وتثبيط العزائم، لا سمح الله، فإنه لا بد من التأكيد، مثنى وثلاث ورباع، على أنَّ الذنب ليس ذنب الشعب السوري على هذا الصعيد، وفي هذا المجال، كما أنه ليس ذنب هذه الفصائل التي افتقرت إلى «العمود الفقري» منذ اللحظة الأولى وافتقرت إلى التنظيم الأم على غرار ما شكّلته حركة فتح ولا تزال تشكّله بالنسبة للمقاومة الفلسطينية.. إن الذنب هو ذنب القوى والأحزاب التي تناوبت على الحكم في سوريا منذ منتصف خمسينات القرن الماضي وحتى الآن، وإن الذنب هو ذنب تلك التجربة الوحدوية بين مصر وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة) التي أرست دعائم صيغة استبدادية متخلفة كان يجب ألا تكون، وخاصة أن أصحابها قد اعتبروها الأنموذج الذي يجب أن يتّبع في الوحدة العربية الكبرى المنشودة.. في ذلك القرن، القرن العشرين، وفي القرون المقبلة. في عام 1954 أجريت انتخابات نيابية (برلمانية) في سوريا، بعد سلسلة الانقلابات العسكرية التي كانت في معظمها دموية، والتي كان بدأها الجنرال حسني الزعيم في عام 1949، وقد أجرى هذه الانتخابات أديب الشيشكلي الذي كان بدوره قد جاء إلى الحكم بانقلاب عسكري، وحقيقة في ضوء نتائجها بالإمكان القول إنها كانت نزيهة ونظيفة حصل خلالها حزب الشعب على ثلاثين مقعدًا من أصل 140 مقعدًا من مقاعد البرلمان في حين حصل حزب البعث على 22 مقعدًا، و«الإخوان المسلمون» على أربعة مقاعد، وحزب التعاون على مقعدين، والحزب السوري القومي على مقعدين، وحركة التحرر العربي على مقعدين، والحزب الشيوعي على مقعد واحد، والمستقلون على ستين مقعدًا. ويقينًا، إن تلك البداية كانت واعدة، وإنه كان بالإمكان أن يكون مسار سوريا السياسي غير هذا المسار المؤلم لو لم يقطع العسكريون، الطامعون في الحكم والمتلهفون إليه، الطريق على تلك البداية، والذين هروبًا من مخاوفهم وإمعانًا في مناوراتهم أخذوا هذا البلد القومي فعلاً، الذي لا يزال شعبه قوميًا رغم ما عانى من مصائب وذاق من ويلات، إلى تلك التجربة الفاشلة مع مصر أي تجربة «الجمهورية العربية المتحدة» التي انتهت نهاية مأساوية كما هو معروف. والمشكلة أن الرئيس جمال عبد الناصر، رحمه الله، الذي أبدى ترددًا جديًّا قبل الإقدام على تلك الخطوة، التي ثبت أنها كانت متسرعة ولم تحسب حساباتها بصورة جيدة، قد اشترط على الضباط البعثيين والقوميين الذين جاءوه حاملين لواء «الوحدة الفورية» ضرورة إلغاء كل الأحزاب السورية القائمة، بما في ذلك حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان هو صاحب هذه الفكرة الوحدوية مع مصر وأكثر المتحمسين لها، ومنْع قيام أي تنظيم حزبي في دولة الوحدة باستثناء «الاتحاد القومي» الذي تم حلُّه بعد «الانفصال» ليحل محله الاتحاد الاشتراكي العربي في عام 1962. والأخطر بالنسبة لما اشترطه عبد الناصر للاستجابة لضغط الضباط البعثيين (السوريين) والقبول بوحدة الثاني والعشرين من فبراير (شباط) عام 1958 أن مَنْع الأحزاب السياسية في سوريا والإبقاء على الحزب القائد الواحد قد استمر مع تسلُّم حزب البعث للسلطة في سوريا بانقلاب على حكم الانفصال في الثامن من مارس (آذار) عام 1963، وهو أي هذا المَنْع قد بقي مستمرًا منذ ذلك الحين، وحتى الآن، مرورًا بانقلاب الثالث والعشرين من فبراير عام 1966، وانقلاب حافظ الأسد في عام 1970. لقد دمَّرت هذه المسيرة البائسة الحياة السياسية في سوريا. ولهذا، عندما اضطر الشعب السوري إلى الثورة على الاستبداد في عام 2011، فإنه لم يجد أي إطار حزبي بالإمكان البناء عليه ووجد نفسه أمام كل هذه التنظيمات والتشكيلات المتعددة والكثيرة.. لقد كان بالإمكان التعايش مع وجود نحو أربعين تنظيمًا في الساحة الوطنية السورية والقبول به قبل أن تتطور الأوضاع وتدخل روسيا الحرب بكل ثقلها، أما وقد تغيّرت الأمور والأوضاع على هذا النحو فإنه لا بد من لملمة الصفوف، وإنه لا بد من إنهاء هذا التشرذم والإسراع في الاتفاق على إطار جبهوي بقيادة عسكرية وسياسية موحدة.