ظاهرة التسول في بلادنا ليست ظاهرة مستفزة وغير حضارية فقط، ولكنها ظاهرة تدعو للتساؤل: وهو إما أن الجهات الأمنية المخول لها مكافحة تلك الظاهرة بالنسبة للأجانب هي مقصرة، أو أن الجهات الاجتماعية المختصة بمكافحة الفقر بالنسبة للسعوديين هي أيضا (مقصرة). وكل هذا لو تأكد مع أنه مؤكد ويعتبر بكل المقاييس كارثة وفضيحة، والدلالة على كلامي هذا هي المشاهدة اليومية التي لا تخطئها العين أمام كل إشارة مرور أو أمام مدخل كل مسجد، ومع أن الحملة على المتخلفين قد حصلت، إلا أن تلك الظاهرة لازالت قائمة. وللأسف أنها تدار من قبل شبكات شبه منظمة تجني من ورائها مكاسب كبيرة، والإثبات أنه يقبض أحيانا على أحد المتسولين ويوجد في حوزته عشرات الآلاف من الريالات. وقد سبق لأحد الصحفيين أن تقمص دور شحاذ، وجلس القرفصاء على الأرض في شارع (قابل) وهو يمد يده للعابرين متظاهرا أنه أعمى، وكانت حصيلته في ساعة واحدة فقط هي أكثر من تسعين ريالا. ومن المعروف أن المالكية نادوا بتحريم التسول في المساجد. وبعيدا عن السعودية فقد سبق لي أن خضت تجربة عملية مع أحد الشحاذين في باريس، وكان فيما أظن أنه رجل من شرق أفريقيا، وذلك عندما اقرأني السلام كأي مسلم ورع، وقال لي إنني جائع وأريد حق الأكل، وعطفت عليه وعندما أردت أن أدخل (ماكدونالد) وأشتري له ساندوتش، رفض قائلا: إنني مسلم لا آكل إلا اللحم الحلال أريد قيمته نقدا، وأعطيته خمسة يورو. ومع الأيام صرت أشاهده دائما في الشوارع، وهو يمسك ببطنه ويتسول للناس، وليس له من كلمة غير أنه جائع ويريد أن يأكل، وفي أحد الأيام تجرأت عليه وسألته: إنني أشاهدك منذ عدة أشهر أولم تشبع بعد؟!، فضحك في وجهي بعد أن انكشف (برقع الحياء) بيننا وقال لي: إنها شغلتي وأكل عيش. ونشأ بيننا ما يشبه الصداقة، فعزمته في أحد الأيام على فنجال قهوة فلبى دعوتي، وعندما طلبت ما أريده، سألته عن نوعية القهوة التي يريدها، وتفاجأت به يطلب من (الغرسون) كوبا كبيرا من البيرة، فقلت بيني وبين نفسي (خوش مسلم)، لا يأكل إلا اللحم الحلال ولا يشرب إلا (الجعة)، ولكنه على أية حال متسول (مودرن)، لا أكذب عليكم أن شغلته اعجبتني، ولولا قليل من الحياء لرافقته في الشوارع. وأحلى ما في الموضوع أنه هو الذي دفع الحساب في النهاية بعد أن حلف وأقسم على ذلك، ولأول مرة في حياتي أشرب فنجال قهوة على حساب شحاذ، وما قصر كثر الله خيره، وكثر من أمثاله.