من يقول إن الفن المصري ذو اتجاه واحد عربياً، بمعنى أنه يُصدر، ولا يستورد عربياً، سيتشكك كثيراً في تلك المقولة حينما يطالع نحو 200 شخص يتصدرهم طاقم عمل وفنانون إماراتيون، جنباً إلى جنب الكثير من ابناء الوطن العربي، فضلاً عن طاقم ألماني، يصدحون بأوبريت عناقيد الضياء، في قلب القاهرة، أو يتابع النجاح الاستثنائي الذي حققه فنانون مغاربيون في المشرق العربي والعكس، وكذلك حالة الامتزاج الأصيلة التي تقيمها العديد من الفعاليات العالمية والإقليمية في دبي المعاصرة، لا يسأل فيها عن جنسية الفنان أو نتاجه، بل يسأل فيها عن القيمة الجمالية والإبداعية لما يقدمه. التشكيل المثال الأبرز اعتبر مدير الفنون البصرية في هيئة دبي للثقافة والفنون، الفنان خليل عبدالواحد، أن التشكيل والفنون البصرية عموماً هي أبرز مثال على فكرة انتفاء الاعتبارات القُطرية، ازاء تقييم الفنون، وأن الانحياز يظل بناء على معايير فنية في المقام الأبرز. وتابع: جماليات اللوحة، أو العمل التشكيلي، هي أول ما تلفت انتباه رواد الأعمال الفنية، فحضور اللوحة يبقى هو الأساس، والمحفز الأول باتجاه الإبحار في تفاصيلها الجمالية، وقد يكون قراءة التفاصيل المكتوبة التي تعرف بحجم اللوحة والمواد المستخدمة، واسم الفنان، قراءة قد تتم في مرحلة لاحقة أو لا تتم بالأساس، لأن العمل الفني هو الهوية الحقيقية لصاحبه. وأكد عبدالواحد أن الفعاليات العديدة التي تقيمها وتستضيفها دبي، في ميادين الفنون تذيب الأفكار المسبقة كافة باتجاه صيت أو شهرة ما لأشخاص او حتى مناطق بعينها، لمصلحة معايير فنية محددة، تستحضر القيم الفنية للأعمال، لذلك سنجد أن تلك الفعاليات تحظى بثقة النقاد والمتابعين، في الوقت ذاته الذي تلقى فيه إقبالاً جيداً على صعيد الجمهور. المسرح العربي قال الأمين العام لمهرجان المسرح العربي الفنان إسماعيل عبدالله، إن مدى تلاؤم العرض المسرحي عموماً، والإنتاج الفني خصوصاً، مع المعايير الفنية، وتجاوز ذلك إلى تقديم تجارب فنية متفردة، هو ما يفرض احتفاء حقيقياً بالمنتج الفني. ورفض عبدالله فكرة الانتصار الجماهيري أو النقدي لأعمال بعينها لمجرد انتاجها القُطري، وتابع: الإبداع هو المظلة الحقيقية للأعمال المتميزة، وهناك اشتراطات فنية محددة وواضحة، يجب الاتكاء عليها حينما نصف عملاً ما بأنه مبدع، كما أن انتفاء صفة الإبداع والتفرد عن أعمال يأتي بناء على مدى ابتعادها عن تلك المقاييس. وأحال عبدالله إلى مهرجان المسرح العربي وجوائزه وفعالياته التي جمعت أعمالاً من مختلف البلدان العربية على اختلاف لهجات تلك الأعمال، مضيفاً: في المهرجان الأخير الذي استضافته العاصمة المغربية الرباط، كما سواه في الشارقة وعمان وتونس والقاهرة، وغيرها، كان بحث النقاد والجمهور لا عن لهجة أو جنسية العمل، بل عن قيمه الجمالية والفنية. وتابع: حملت دورات المهرجان منافسة بين أعمال مختلفة، وفي ظل وجود أعمال لمسارح عريقة عربياً، كان الفوز بجائزة الشارقة للإبداع وجائزة المهرجان الكبرى لصالح أعمال تنتمي لمسارح ربما لا تدانيها عراقة، لكنها نجحت بشكل أكبر في إمتاع الجمهور، وإقناع لجنة التحكيم بفرادتها وتميزها. وفي الوقت الذي تسود فيه أفكار تقصر تجويد بعض الفنون على قطاعات مناطقية بعينها، فإن الواقع يؤكد أن لكل عمل ظروفه الإنتاجية التي قد تجعله يكسر قواعد أفكار مسبقة، فليس كل عمل بدوي أردني يسير على السوية الفنية ذاتها لأعمال أردنية خالدة في الدراما العربية، كما أن نجاح مسلسلات سورية في عكس تفاصيل شعبية شامية، لم يحل دون إخفاق مسلسلات سورية أخرى في هذا المجال، والدراما المصرية مملوءة بهنات كثيرة، في التوقيت ذاته الذي كانت تقدم فيه روائع سينمائية وتلفزيونية. وعناقيد الضياء ليست النموذج الوحيد على الاحتفاء بالإبداع بعيداً عن دار إنتاجه، ومقاييس الاحتفاء، على الرغم من تبدل الأذواق تبقى منتصرة للفن الهادف عموماً، وليس الأمر مقتصراً على مجال الإبداع الغنائي والدرامي، فدبي كانت محوراً لتجمع 100 شاعر بلغات مختلفة في مهرجانها الأول للشعر، واستمر الخطاب الفني العالمي، وليس العربي، هنا في أكثر من مناسبة منها آرت دبي، نحت دبي، وأيضاً مهرجان دبي السينمائي وغيره. وعلى أكثر من 20 قناة فضائية مختلفة، استحوذت طلات الفنانين الإماراتي حسين الجسمي والتونسي لطفي بوشناق والمصري علي الحجار والفلسطيني محمد عساف، ليتقدموا أسرة عناقيد الضياء، وهو العمل الذي سافر من الشارقة مودعاً فيها عرضه على ضفاف البحيرة في مسرح المجاز، باتجاه عرض جديد على مسرح أعد خصيصاً لاستقباله في استاد الدفاع الجوي بمصر. العمل الذي أنجزه المركز الإعلامي بالشارقة، والذي جاء عرضه الجديد في إطار مشاركة رسمية لإمارة الشارقة في احتفالات مصر بذكرى حرب أكتوبر، عكس حساً فنياً عالياً، ليس لدى الفنانين الرئيسين المشاركين في أغاني الأوبريت فقط، بل في الممثلين، والمجاميع المختلفة، فضلاً عن الألحان التي وضعها الملحن البحريني المعروف، خالد الشيخ، والغرافيك الذي أنجزته إحدى الشركات الألمانية المتخصصة. الصورة الحضارية المشرفة التي ظهر عليها الأوبريت الإماراتي كانت بمثابة تمثيل فني رفيع المستوى في هذا المحفل، وهو ما أشادت به بالفعل وسائل الإعلام المختلفة، وأيضاً نقاد متخصصون، رأوا العمل العربي، ذا مواصفات عالمية، وبمثابة أوبريت، ينضم إلى كوكبة ونخبة الأعمال العالمية في هذا المجال. الفنان حسين الجسمي رأى في تصرحات خاصة لـالإمارات اليوم أن الفنان سفير لبلاده، في حين أن الفن الهادف هو سفير للإنسانية جمعاء، مضيفاً: لا حدود للإبداع والفن الراقي، فالعمل الفني يفرض نفسه دائماً، ولا يمكن أن تشكل الحدود موانع لوصول الإبداع الحقيقي وتحقيقه مزيداً من الانتشار. وأضاف الجسمي الذي يعد أحد أكثر الفنانين الإماراتيين حظوة بالمشاركات الخارجية: لم يعد التقييم الفني مقتصراً على النقاد المختصين فقط، فالجمهور الواعي يمتلك حساً نقدياً مقدراً، وجميع الأعمال التي يشارك فيها الفنان، إما أن تُحسب له أو عليه، لذلك فهو مطالب بمزيد من توخي الدقة في اختياراته، لا سيما حينما تكون المشاركة خارج الدولة. وأعرب الجسمي عن سعادته بمشاركاته الفنية المختلفة، سواء داخل الوطن أو خارجه، مضيفاً الغناء في مختلف إمارات الدولة يبقى هو الأصل الذي أجد فيه ذاتي، لا سيما حينما يكون الأمر منوطاً بالأغاني الوطنية وما تحمله من قيم الولاء المتأصلة في نفس كل مواطن إماراتي، أما الغناء خارج الدولة، فيبقى ايضاً مرتبطاً بالوطن، في إطار سفارة الفن المترامية الأطراف. الفنان التونسي لطفي بوشناق، المشارك في أوبريت عناقيد الضياء، والذي شرف ايضاً بمشاركة مواطنته الفنانة لطيفة غناء قصيدة رسالة إلى الأمة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، قال لـالإمارات اليوم ايضاً إن فرص الفن الهادف تبقى أسمى من اعتبارات الترويج لمنتج فني على اعتبارات قُطرية محددة، مضيفاً ما أدى إلى انتشار الأفلام المصرية والطرب المصري، هو في الأساس المنتج الجيد والمبدع الذي طالعنا به مبدعون منذ الخمسينات والستينات. وتابع: على الدوام تبقى فرصة الأعمال المبدعة هي الأكبر من سواها، حتى إن حققت بعض الأعمال الضعيفة فنياً انتشاراً ما، فإن ذلك يبقى في إطار المؤقت. الفنان الفلسطيني الشاب محمد عساف من جانبه، قال إن اللهجة في حد ذاتها لا يمكن أن تكون عاملاً حاسماً في تحقيق مزيد من الفرص للفنان، وأضاف لـالإمارات اليوم أن قيمة ما يؤدى، ومدى قدرة الفنان على إقناع الجمهور، وتقبل الجمهور للفنان، كلها عوامل ذات صلة بالمعايير الفنية، وما عدا ذلك فإن العوامل المساعدة الأخرى، بما فيها اللهجة، لا يمكن أن تصنع فناناً. وفي مجال الفنون التشكيلية يرى مدير قسم الفنون البصرية في هيئة دبي للثقافة والفنون، خليل عبدالواحد، إن الإبداع لا جنسية له، فالعمل التشكيلي المبدع والمتميز هو الذي يفرض حضوره، وتألقه، في خضم العديد من الأعمال الأخرى، التي ربما تجاوره المكان، دون ان تشاركه مقومات الإبداع ذاتها. وتابع يجب التعاطي على الدوام مع الفنون دون اعتبارات مسبقة، سواء كانت تلك الاعتبارات تتعلق بهوية المبدع ذاتها، أو خلاف ذلك، لأن لكل عمل إبداعي بصمته وهويته المختلفة. والمسرح ليس استثناء من قاعدة الإبداع الذي يتعالى على دعاوى القطرية باعتباره جنساً في حد ذاته تنتمي إليه الأعمال التي تتحقق فيها شروط ومقومات الإبداع، حيث يرى أمين عام الهيئة العربية للمسرح، الفنان إسماعيل عبدالله، أن أدبيات ومفردات الإبداع ولغته الحقيقية في المسرح عموماً، سواء المحلي أو العربي، أو العالمي، تبقى واحدة. وتابع يجب على الناقد، كما يجب على الجمهور تجنب الوقوع في شرك الأحكام المسبقة، فلكل عمل أقانيمه ومفرداته، والتي ربما ترتقي إلى الشروط الإبداعية، أو تكون دون ذلك، ولا يعني انتماء عمل ما لمسرح، أو قطاع مسرحي بعينه يكتسي عراقة وصيتاً أوسع، أنه بالضرورة سيكون كذلك.