يقف الباحث في مدونة التراث العربي أمام واحد من الكتب النادرة التي تنتمي إلى جنس السرد الفلسفي، والبحث التأملي المنفلت من كل أشكال النص الجاهزة التي رست معالمها اليوم، فيقف عاجزاً أمام كتاب مثل مقابسات أبي حيان التوحيدي، وعن تصنيف الكتاب، والوقوف على محور أصيل يدور حوله متن الكتاب. كل ما يمكن الإمساك به لدى قراءة المقابسات هو الوحدة الأسلوبية في طرح القضايا التي يناقشها الكتاب، فالكتاب قائم على توثيق سجال الحوارات بين علامات ومفكرين وفقهاء لهم تاريخهم في العلم والمعرفة، والبحث حول كنه الأشياء، عدا ذلك يبدو الكتاب تأملياً في قضايا العلم والأدب، والأديان، وعلم الاجتماع، والطب، وغيرها من الأجناس المعرفية. لذلك يمكن القول إن كل مقابسة من المقابسات هي محور كامل يمكن المكوث فيه بحثياً للخروج بمجلدات ومؤلفات كثيرة، فحين يفتتح التوحيدي كتابه في نقاش الحاجة لوجود علم النحو، يكون بذلك فتح باباً على تاريخ اللغة، وحقيقتها في الوعي الإنساني، وأثرها في العلوم، والتأصيل للموجودات، فهي بلا شك ليست رموزاً لإنتاج خطوط تواصل بين مجتمع أو كتلة بشرية واحدة وحسب. من هنا يجد الباحث أن التوحيدي كان حاذقاً في اختياره لعنوان الكتاب، فالقبس هو جزء مهم من كل كامل، وهو نص جوهري خالٍ من متعلقاته، ومتحرر من كل ما هو عالق به، أي بصورة أخرى هو نص، أو جملة، أو عبارة تكثّف موضوعاً يطول الحديث فيه. لهذا لا يمكن التوقف عند الكتاب بكامله بقدر ما يمكن التوقف عند محاوره، والبحث عميقاً في جوهره ومتعلقاته، إذ يطول الحديث عند كل محور يطرحه التوحيدي، وكأنه يذهب إلى معارف العلوم الإنسانية كلها ويطرق بابها تاركاً كماً من الأسئلة العسيرة التي تحتاج إلى كدٍ ذهني عالٍ للوصول إلى إجاباتها. ينقل التوحيدي في حديثه عن فعل الكتابة ما نصه: سمعت الخوارزمي الكاتب يقول لأبي اسحق الصابي بن هيثم ابن هلال: لم إذا قيل لمصنف أو كاتب أو خطيب أو شاعر، في كلمة من كلام، وقد اختل شيء منه، وبيت قد انحل نظمه، ولفظ قلق مكانه: هات بدل هذا اللفظ لفظاً. ومكان هذه الكلمة كلمة، وموضع هذا المعنى معنى؟ تهافتت قوته، وصعب عليه تكلفه، وبعل بمزاولة ذلك رأيه؟ ولو رام إنشاء قصيدة مفردة، أو تحبير رسالة مقترحة، كان عسرها عليه أقل، وكان نهوضه بها أعجل؟ فقال: وقع ما يحتاج إلى تدبير قد فات أوله من جهة صاحبه الأول، ومن كان أولى به، وكان كالأب له، وذلك شبيه بعلم الغيب، وقل من ينفذ في حجب الغيب مع العوائق التي دونه، وليس كذلك إذا افترع هو كلاماً، وابتدأ فعلاً، واقتضب حالاً، يستقل حينئذ بنفسه ولا يحتاج فيه إلى شيء كان من غيره، أو يكون تعلقه بيقظته يعطيه تمام ما قد فتح عليه سده، وقدح عليه زنده، ولم يكن هكذا حاله في كلام معروض عليه لم يهجس قط في نفسه، ولا أعدله شيئاً من فكره، فقد يعجزه ما لم يتأهب له ولم يرض نفسه عليه، نوفي الجملة: كل مبتدئ شيئاً فقوة البدء فيه تفضي به إلى غاية ذلك الشيء، وكل متعقب أمراً قد بدأ به غيره فإنه بتعقيبه يفضي إلى حد ما بدأ به في تعقيبه ويصير ذلك مبداله، ثم تنقطع المشاكلة بن المبتدئ وبين المتعقب. يكشف هذا النص عن واحدة من القضايا التي شغلت الكتاب النقاد كثيراً في القرن العشرين، والمتعلقة بآلية الكتاب، وعوالمها، وجوهر فكر السرد أو بناء النص، إذ تبدو ذهنية العلامة العربية متوقفة عند قضايا مفصلية في فعل الكتابة، فالسؤال المطروح لا يكشف إلا عن بحث عميق في فعل الكتابة، والعوالم الكامنة خلف النص. يظهر هذا في الإجابة التي يقدمها أبو اسحق الصابي بن هيثم ابن هلال، إذ يتحدث عن أبوة النص، ومرجعياته بأنساق وجمل تنتمي إلى ثقافة القرن الثالث الهجري، فنجده يقول في توصيف العلاقة بن الكاتب والنص، بأنها: كالأب له، وهنا تنكشف الدراية بواحدة من القضايا التي بحثتها فلسفة النص الحديث والمتعلقة في النص ومرجعياته، أو المتعامل مع النص بوصفه الجزء الظاهر من الكلام الكثير الذي يعتمل في رأس الكاتب. بذلك يفسر ابن هلال الصعوبة التي يلقاها الكاتب عندما يطلب منه تصحيح نص مكتوب أصلاً لكاتب غيره، مقابل السهولة في الكتابة من جديد، إذ في الحالة الأولى يحتاج الكاتب إلى الدخول في عوالم النص الكامنة خلفه والامتثال لها، ليعدل أو يضيف على نص كاتب غيره. ليس ذلك وحسب بل يتحدث عن طاقة الابتداء، والدفق الأول الذي يفيض منه النص كاملاً، وهذا تماماً ما قدمته نظريات نقدية أدبية معاصرة حول القصيدة، وأثر الكلمة الأولى منها على انسياب النص، فبعض الشعراء يحددون انسياب النص من مفردته الأولى. بلا شك كانت هواجس الأديب واللغوي العربي سباقة، وتتجاوز عصره بأشواط ومراحل عديدة، إلا أنها مثلت ركائز لم يتم العمل عليها لتتحول إلى مسارات ونظريات لها أصولها وجذورها في مدونة التراث الأدبي العربي.