نادراً ما يتم التواطؤ على عدم دفن الميت، بحيث يبقى عشرين عاماً وهو يتحلل تحت الشمس ولا يتبقى منه غير هيكله العظمي. وباستثناء جلجامش في الملحمة العراقية القديمة فإن الموتى يدفنون على الفور، وفي عقيدتنا كرامة الميت دفنه. لكن اتفاقية أوسلو شذت عن القواعد كلها، فقد ماتت فور ولادتها ومن قتلها هو الذي كان يعرف منذ البدء أنه يستدرج الطرف الآخر ويعده بدولة لم تكن غير سراب، أو هذا على الأقل ما يقوله الكاتب الفرنسي بنجامين بارت. وحين يعلن الرئيس أبو مازن في الأمم المتحدة عن التحلل من أي اتفاقيات لا يلتزم بها الطرف الآخر فذلك نعي به قدر من التحفظ لأوسلو، فالدولة العبرية تجاهلت كل ما ورد في تلك الاتفاقية فور الفراغ من التوقيع، وقبل أن يجف الحبر الذي كتبت به تلك الاتفاقية. ورغم أن ما أعلنه أبو مازن كان صريحاً إلا أن أطرافاً فلسطينية رأت أنه بحاجة إلى مزيد من الإيضاح. فالاحتلال انتهك كل حي وميت وَمُقدس في فلسطين، واستباح دم شعب على مرأى ومسمع من العالم كله، وبقيت ردود الأفعال على جرائمه تراوح بين شجب خجول وغضب مكظوم، ما شجع الاحتلال على تكرار انتهاكاته بل توسيعها وحماية قطعان المستوطنين التي لا تعوقها أي كوابح أخلاقية أو روادع سياسية عن اعتداءاتها الوحشية السافرة. لقد تعفن أوسلو قبل أن يبادر أي من الأطراف إلى دفنه، ولم يمض يوم واحد منذ توقيع تلك الاتفاقية في الهزيع الأخير من ليلة باردة لم تقترف فيه سلطات الاحتلال جريمة، وكأن هناك بنوداً سرية تتيح لها أن تحرق الأطفال وهم أحياء وأن تحرق أشجار الزيتون لأن حفيفها بالعربية الفصحى، وتلهج بأسماء من زرعوها قبل مئات السنين. بالطبع لن يودع الفلسطينيون أوسلو بمناديل مبللة بالدموع، بل سيكسرون وراءه كل ما لديهم وفي خوابي بيوتهم من جرار حتى لو اضطروا إلى إفراغها من الزيت. إن الخلل الجذري والبنيوي في أي اتفاقية ترضى بها تل أبيب هو أنها تفاوض بصورة مزدوجة فهي حركة ودولة، والصهيونية كمرجعية لم تفارق المفاوض لأنها احتياطية وهي الأشد نفوذاً من الأسرله، وحين قال أحد المتحمسين لأوسلو ذات يوم مستشهداً ببيت شعر للمتنبي هو: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بد. رد عليه كاتب يهودي بشكل غير مباشر قائلاً: السلام لا يعني الصداقة.