قبل عقود خلت، أثار عدد من المؤرخين الفرنسيين جدلا بشأن الواقعة المعروفة في كتب التاريخ باسم "معركة بواتييه" أو "معركة بلاط الشهداء" حسب المراجع العربية التاريخية القديمة. وكانت غالبية الروايات التاريخية تؤكد أن هذه المعركة حصلت في مكان يقع بين مدينتي بواتييه وتور الفرنسيتين الواقعتين في وسط فرنسا الغربي. وقاد المعركة من جانب الفرنجة شارل مارتيل أحد القائمين على ما كان يسمى "الممالك الفرنكية". وهو جد الإمبراطور شارلمان. احتد الجدل قبل عقود إذن بين المؤرخين الفرنسيين بشأن نقطتين اثنتين هما المكان الذي حصلت فيه هذه المعركة وتاريخها. وذهب بعض المؤرخين الفرنسيين إلى القول إن إصرار كثير من المؤرخين الإنجليز على تسمية هذه المعركة ب"معركة تور" يدل على أنها حصلت في مكان أقرب إلى "تور" منه إلى "بواتييه" علما أن "تور" تقع شمال "بواتييه" وأن المسافة بينهما هي 104 كيلومترات. وثمة رواية أخرى تقول إن مكان المعركة يبعد عن مدينة "بواتييه" في موقعها الحالي زهاء 30 كيلومترا باتجاه الشمال الغربي وبالتحديد على تخوم بلدة صغيرة تقع على نهر "فيين" وتسمى "فونوي سور فيين". وقد تحول هذا المكان إلى موقع سياحي هو عبارة عن متحف مفتوح يعرف باسم موقع "موسيه لاباتاي". أما بشأن تاريخ وقوع معركة "بواتييه" بين الفرنجة والمسلمين، فإن عددا من المؤرخين الفرنسيين وغير الفرنسيين يؤكدون أنه يوافق الخامس والعشرين من شهر أكتوبر عام 732 بعد ميلاد المسيح أي بعد 21 عاما فقط على فتح الأندلس من قبل موسى بن نصير وطارق بن زياد، بينما يرى آخرون أن المعركة حصلت عام 733، وهو مثلا حال المؤرخ الفرنسي جان دفيوس الذي شارك في الجدل القديم والجديد حول معركة "بواتييه" وأهميتها ودلالاتها. بواتييه أم تولوز: أيهما أهم؟ والحقيقة أن أسئلة كثيرة تغذي الجدل الجديد القوي في فرنسا بشأن ما حصل في "بواتييه" أو بين "بواتييه" و"تور" في عام 732 أو 733 بين جيش شارل مارتيل وجيش المسلمين الذي كان يقوده آنذاك والي الأندلس عبد الرحمن الغافقي. حصلت فعلا معركة كبرى بين الطرفين قرب "بواتييه "؟ هل إن ما جد كان بحق هزيمة كبرى بالنسبة إلى المسلمين وانتصارا كبيرا بالنسبة إلى الفرنجة والكنسية بشكل خاص؟ هل يعد شارل مارتيل منقذ الكنيسة ورمز نهاية العهد الإسلامي في جنوب فرنسا؟ هذه هي بعض الأسئلة التي تغذي الجدل الجديد حول بدايات الإسلام والمسلمين في فرنسا من الناحية التاريخية. وكثيرون هم المؤرخون الفرنسيون والأوروبيون الآخرون الذي يجيبون بصيغة الإيجاب عن مثل هذه الأسئلة. ولكن أصواتا عديدة من المتخصصين في علوم التاريخ والآثار والاجتماع والسياسة يقدمون قراءات مغايرة تماما عما حصل بين "بواتييه " و"تور" في عام 732 أو 733 وعن أبعاد هذا الحدث في تلك الفترة وبعدها. ونجد ضمن أصحاب القراءة المغايرة المؤرخين الفرنسيين جان دفيوس وكريستوف نودان والمؤرخ شرف الدين مسلم أمين عام اتحاد المسلمين في إقليم "جيروند" الواقع في جنوب فرنسا الغربي والأكاديمي والكاتب الجزائري صالح قمريش. وقد قضى كلاهما سنوات عديدة في الاهتمام بالموضوع في فرنسا. وكان المؤرخ الفرنسي جان دفيوس الذي كرس جانبا كبيرا من أعماله لبدايات وجود المسلمين في فرنسا قد عزز منذ عشرات السنين الطرح الذي يقول أصحابه إن معركة "بواتييه" لم تحصل كما يتخيل الكثيرون لأن جيشي عبد الرحمن الغافقي من جهة وشارل مارتيل من جهة أخرى ظل كلاهما يرقب الآخر طيلة ستة أيام وأن كتيبة من جيش المسلمين بدأت بعد ظهر اليوم السابع وهو يوم جمعة مناوشة أبعد من أن تكون عملية كر حقيقية، ولكنها لم تستطع شق صفوف جيش مارتيل. وفي المساء، عاد كل جيش إلى مواقعه الأصلية في انتظار اليوم السابع. وفي صباح يوم السابع لم يكن شارل مارتيل يعرف أن المعركة قد انتهت قبل أن تبدأ بحق وأنه منتصر بدليل أنه انتظر بدء تأهب جيش الغافقي للكر بشكل أكثر عنفا مما كان عليه الأمر في اليوم الذي سبقه. وبعد انتظار طويل خامرته فكرة مفادها أن عبدالرحمن الغافقي ربما كان يهيئ لخدعة حربية يتمكن من خلالها من الإجهاز على الخصم من حيث لا يتوقع. ويمضي المؤرخ الفرنسي جان دفيوس فيقول إن شارل مارتيل أرسل بعض الجواسيس لمعرفة ما كان يجري في معسكر الخصم فعاد هؤلاء ليقولوا له إن معسكر المسلمين كان خاليا تماما من المقاتلين. وبعدها فقط وصلت أخبار إلى مارتيل تعلمه أن عبدالرحمن الغافقي قتل خلال المناوشة التي حصلت في اليوم الذي قبل ذلك اليوم وأن جيشه فضل الانسحاب بدل مواجهة الفرنكيين. توظيف معركة "بواتييه" والواقع أن الأبحاث الكثيرة التي قام بها المؤرخ المغربي شرف الدين مسلم والمقيم في فرنسا منذ عشرات السنين حول الموضوع قادته هو الآخر إلى خلاصة مفادها أن شارل مارتيل والكنيسة الكاثوليكية ومهندسي المشروع الاستعماري الفرنسي في القرن التاسع عشر والمشروع الذي يقوده اليوم اليمين المتطرف أطراف أساسية ساهمت في منح ما يسمى "معركة بواتييه" أكثر من حجمها ودلالات يراد من ورائها خدمة مصالح ظرفية هي مصالح هذه الأطراف وليست لديها علاقة مباشرة بالحدث ودلالاته الحقيقية، بعيدا عن التضخيم والتهويل. وجاء هذا الاستنتاج في كتاب لمسلم صدر مؤخرا عن دار "بيان" الفرنسية بعنوان "معركة بواتييه، تاريخ أسطورة". ويذكر مؤلف الكتاب أن المؤرخين الأوروبيين في القرن الثامن الميلادي والقرون التي تلته لم يذكروا ما حصل بين الغافقي وشارل مارتيل إلا في أسطر قليلة وأنهم يرون أن المعركة الحقيقية المهمة التي حصلت في فرنسا بين المسلمين والفرنجة هي تلك جدت في مدينة تولوز أو طلوشة عام 721 بين جيش دوق "أكيتان" وكان يسمى "أود" من جهة وجيش المسلمين من جهة أخرى جاء من الأندلس بقيادة والي الأمويين آنذاك في هذه الربوع وهو السمح بن مالك الخولاني. ولكن شارل مارتيل - حسب المؤرخ شرف الدين مسلم - استغل ما حصل بعد سنوات في "بواتييه " ليفرض شيئا فشيئا سلطته على وسط فرنسا وجنوبها وليظهر أمام الكنيسة بمظهر القائد القادر على وقف توسع الإسلام في أوروبا آنذاك وليحسن صورته لديها. وكان متهما قبل ذلك من قبل المسؤولين عن الكنيسة بالاستيلاء على جانب كبير من أموالها لخدمة مصالحه لا للدفاع عن المسيحية. ويمضي شرف الدين مسلم فيقول في كتابه مستندا إلى وثائق تاريخية كثيرة إن الكنيسة استخدمت بدورها الطريقة التي ضخمت من خلالها دلالات "معركة بواتييه" وتقديمها كما لو كان الهدف منها تحرير المسيحيين من "بطش المسلمين" لتعلن الحرب الصليبية من مدينة كليرموفيرون الفرنسية عام 1095. وفي كتاب آخر صادر عن منشورات ليبرتاريا"، وعنوانه "شارل مارتيل ومعركة بواتييه: من التاريخ إلى أسطورة الهوية"، يقول المؤرخان الفرنسيان كريستوف نودان وويليام بلان إن دخول مارتيل في هذه المعركة كان سياسيا بالدرجة الأولى انطلاقا من رغبة كانت لمارتيل في فرض نفسه على الكنيسة وعلى الممالك الفرنكية في ذلك الوقت باعتباره شخصا كان ينبغي أن يحسب له حساب لاسيما وأن الكنيسة كانت تتهمه بسلب أموالها وأن "أود" دوق " أكيتان" أي شطرا هائلا جنوب فرنسا الغربي الحالي كان يمقت شارل مارتيل إلى حد أنه أقام علاقات طيبة أحيانا مع مسلمي الأندلس الذين استطاعوا بسرعة تجاوز سلسلة جبال "البيرينيه" والسيطرة على مدن مهمة في الجنوب الغربي والشرقي الفرنسي منها "بيزييه" و"ناربون" و"نيم". وهذا ما يفسر حسب الأكاديمي الجزائري صالح قمريش - الذي أصدر هو الآخر عدة كتب حول الموضوع -زواج ابنة دوق " أكيتان" المسيحية بحاكم مدينة "ناربون" المسلم وهو مغاربي. بل إن قمريش صاغ من قصة الحب التي أفضت إلى هذه الزيجة رواية نشرت لأول مرة باللغة الفرنسية عن دار "بالان" عام 1995. وعنوانها " حب جهاد". ويذكر صالح قمريش في كتاب آخر موثق اعتمد في صياغته على معلومات متصلة بعلوم التاريخ والاجتماع والعلوم السياسية أن الدولة الفرنسية نفسها ضخمت في القرن التاسع عشر أهمية معركة " بواتتيه" عبر عدة طرق منها الترويج للمشروع عبر كتب التاريخ المدرسية والآداب والفنون لتسويق مشروعها الاستعماري في البلدان العربية وبخاصة في الجزائر. وقد نشر الكتاب عام 2010 عن دار "بيرين" الفرنسية بعنوان صيغ على النحو التالي: "عبد الرحمن ضد شارل مارتيل: القصة الحقيقية لمعركة بواتييه". وإذا كان اليمين المتطرف الفرنسي يسعى بانتظام إلى الدعوة لترحيل العرب من فرنسا بحجة أن شارل مارتيل قد طردهم من البلاد في بواتييه عام 732 أو 733، فإن صالح قمريش يدحض هذا الطرح ويدعم ذلك بعدة حجج يلخصها في النقاط الأربع التالية: أولا : لم تكن فرنسا موجودة في القرن الثامن بشكلها الحالي وإنما كانت مجموعة من الممالك متناحرة ومتنازعة في ما بينها. ثانيا : لم يكن شارل مارتيل هو الذي استطاع التغلب على العرب في بواتييه، بل إنه فشل حتى في استرجاع مدينة ناربون منهم في عام 739. وبدل أن يقاتلهم، عاث فسادا في ممتلكات سكان مدن أخرى وقتل الكثيرين منهم والحال أنهم من الفرنجة لأنهم كانوا يتعاونون مع المسلمين. وهو حال مدن "بيزييه" و"آغد" و"نيم". ثالثا: بالرغم من أن الملك بيبان الثالث الملقب ب"بيبان القصير" وابن مارتيل استطاع استرجاع مدينة ناربون من الحكم العربي بعد مرور سبع سنوات على تعيينه ملكا للفرنجة عام 759، فإنه رحل عام 768 ولما يزل الحضور العربي قويا في عدة مناطق تقع في وسط فرنسا وجنوبها. بل إن المعالم الأثرية والوثائق التاريخية تؤكد أن هذا الحضور ظل قويا في منطقة "جورا" الواقعة وسط فرنسا الشرقي على الحدود السويسرية حتى عام 972 أي بعد مرور قرنين على وفاة الملك بيبان الثالث. رابعا: أن الفرنسيين بشكل عام سعوا إلى إبراز أهمية ما يعتبرونه انتصارا كبيرا في أعقاب معركة بواتييه مع العرب في القرن الثامن للتغطية في الواقع على هزيمتهم الكبيرة في أعقاب معركة أخرى جرت بينهم وبين الإنجليز في بواتييه ذاتها عام 1356 في إطار ما سمي "حرب الأعوام المئة". فقد فر المقاتلون الفرنسيون من ساحة الوغى في تلك المعركة الشرسة وتركوا وراءهم ملكهم جون الثاني وابنه فيليب فوقعا في الأسر. حوار الحضارات والواقع أن السلطات الفرنسية الوطنية والإقليمية والمحلية اهتدت في العقود الأخيرة إلى أن من مصلحتها السعي إلى تنمية خطاب جديد مغاير للخطاب اليميني المتطرف في تعامله مع معركة "بواتييه" التي حصلت في القرن الثامن بين الفرنجة والمسلمين من خلال إطلاق متحف في الهواء الطلق في المكان الذي يفترض وقوع المعركة فيه وتقديم ما حصل باعتباره فرصة للتعارف والإثراء المتبادلين بين الحضارة الأوروبية من جهة والحضارة العربية الإسلامية من جهة أخرى. وتجدر الإشارة إلى أن النص الفرنسي الذي يعرف بهذا المتحف على شبكة الإنترنت ينهى على الشكل التالي: "هنا تواجهت حضارتان في ظرف يوم. ولكنهما أثرتا من بعضهما البعض بشكل متبادل على مر القرون". ومن يزور هذا الموقع - المتحف على عين المكان، يخرج بانطباع عام مفاده أن الحضارات الإنسانية تأخذ من بعضها البعض حتى في فترات الخلافات والنزاعات. وهو انطباع لا يشاطره تيار اليمين المتطرف اليوم والذين ينتمون إليه لا في فرنسا فحسب بل في كل بلدان العالم تقريبا.