كتبت هذا المقال عند الواحدة ظهرا بعيد (زوال شمس) يوم النفرة من مشعر منى باتجاه طواف الوداع في النسك الأخير من فريضة الحج. جوهر فكرة مقالي لهذا اليوم وصلبه تختصره جملة واحدة وكل ما تبقى من جمل بعدها ليست بأكثر من شرح للتفاصيل: أنا أشعر تماما أن مدرسة الفقه الإسلامي لم تتطور نحو محاكاة ومجاراة (الواقع الزمني والمكاني) في حياة ملايين المسلمين مع أركان دينهم وفرائضه ونسكه. خذ مثلا: منتصف ليلة البارحة.. حاج يسأل فضيلة الشيخ الفاضل عن رخصة النفرة ومغادرة منى برمي الجمرات بعد منتصف ليل/ صباح اليوم الثالث من أيام التشريق، لكن فضيلة الشيخ يرد عليه أنه لا يرى أي رخصة للنفرة إلا بعد زوال ظهر اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة. وفي أبسط الأحوال وأكثرها تفاؤلا فهذا يعني تدافع مليوني حاج خلال بضع ساعات إلى آخر نسكين، وهما رمي الجمرات وطواف الوداع، وهذه مهمة مستحيلة لأن الوضع محكوم بظرفين، زمني ومكاني. نحن مع هذه الظروف نسينا القاعدة الفقهية من فم سيد الخلق وهادي هذه الأمة، عليه أفضل الصلاة والسلام: افعل ولا حرج. هنا المثال الثاني لجمود المدرسة الفقهية مع واقع العصر. لا زلت أتذكر بحزن بالغ اتصال شاب مسلم من مدينة (جوتنبرغ) السويدية ببرنامج إفتاء ظهر اليوم الأول من رمضان الفائت، وهو يتساءل عن فتوى تستطيع أن تفهم استحالة صيام يوم من نهار يمتد في اليوم الواحد إلى 20 ساعة. لا زلت أتذكر بكاءه في نهاية الفتوى التي لم تر له رخصة لاستحالة الصوم بهذه الطريقة في ثنايا دين عظيم جعل حماية النفس أولى مقاصد هذه الشريعة الإسلامية. خذ في المثال الثالث ما يلي: على الموقع الإلكتروني لإحدى أكبر منظمات العمل الخيري الإسلامي خبر يقول عن استقبالها لأضحيات ما يقرب من 30 مليون مسلم في الخارطة الإسلامية. تحليل الخبر وبلغة الأرقام يبرهن عن استحالة ذبح وتوزيع 30 مليون أضحية في ظرف ثلاثة أيام، لأن (المشروع) بالعقل والمنطق، يحتاج إلى جيوش مكتملة من العملين اللوجستي والإمدادي، وهذا يستحيل على قدرات دول مكتملة فكيف يكون الوضع مع مجرد منظمة عمل تطوعي خيري من بين المئات الأخرى العاملة في ذات الميدان. سأنتهي: نحن اليوم وفي عالمنا الإسلامي، وفي خريطة انتشار المسلمين في قارات الدنيا المختلفة نحتاج إلى (ثورة) اجتهاد فقهي قادرة على استيعاب وفهم ظروف العصر وإرهاصاته. ثورة اجتهاد فقهي تحرر أبناء هذا الدين العظيم من أسر القوالب المعلبة التي لم تستطع فهم ظروف الزمان والمكان اللذين يعيش فيهما ملايين المسلمين في واقع ووقائع جديدة.