عندما نادى حاجب محكمة الأسرة على اسمها خرجت من بين الصفوف امرأة وقور عليها علامات الثراء، تجاوز عمرها ال 75، لكن ملامحها تدل على أنها تحمل حزن مئات السنين، وكأن الأحزان تجمعت من أجلها. توجهت المرأة إلى منصة المحكمة..أشفق عليها رئيس المحكمة وسمح لها بالتحدث وهي جالسة بعد أن لاحظ عدم قدرتها على الوقوف إلا بصعوبة بالغة، وبعد أن التقطت أنفاسها، أخذت تشكو قسوة أبنائها الثلاثة الذين سهرت على رعايتهم منذ صغرهم حتى تخرجهم في الجامعات، وتبوأ كل منهم منصباً كبيراً. كان الحزن يكسو وجهها، والآلام النفسية تمزقها وهي ترى أبناءها يردون لها الجميل بطلب الحجر عليها واتهامها بعدم إدراكها لتصرفاتها الخرقاء، وتعيين ابنها الأكبر قيماً وحارساً عليها وعلى أموالها، حتى تكف عن إنفاق ثروتها على ابنتها الوحيدة التي تميزها عليهم. نشأت شيماء في أسرة ميسورة الحال، والدها يشغل مركزاً مرموقاً، ووالدتها مدرسة بإحدى القلاع التعليمية الخاصة، وليس لديها أية مشاكل أو عقبات تعكر عليها صفو حياتها أو تنغص عليها سعادتها، كما أنها تتمتع بقدر كبير من الجمال الهادئ الذي يريح النفس ويغزو القلوب، ورغم يسر الأحوال عرفت بين جميع أفراد العائلة بمهارتها في إدارة شؤون المنزل من إعداد الطعام، وتنظيم وترتيب وغيره، حتى أن والدتها كانت تعتمد عليها اعتماداً كلياً دون أن تقصر في إحدى مسؤولياتها مهما كانت بسيطة، فهي دقيقة وتتقن أي عمل يسند إليها، وكانت بسيطة في اختيار ملابسها، جادة في حياتها لم تترك لنفسها الفرصة لكي تفكر في أية علاقة مع أي شاب، على الرغم من أن زملاءها يسعون للفوز بابتسامة منها أو بحديث خاص عن الدراسة، ولأنها الابنة الوحيدة لوالديها كانت والدتها تلح عليها باستمرار لتختار أي عريس من بين الطابور الطويل الذي ينتظر إشارة منها، حتى لا يمر بها العمر دون أن تشعر وتفقد معها خطابها، الذين يتهافتون عليها منذ التحاقها بالجامعة وجميعهم من ذوي الحسب والنسب والمال، مؤكدة أن أمنيتها الوحيدة هي أن تطمئن على ابنتها الوحيدة مع رجل يحبها ويقدرها، لكن قلب شيماء لم يكن قد خفق بعد، وكانت قد أخذت عهداً على نفسها بعدم الزواج إلا برجل يقبله قلبها وعقلها حتى تعرفت على أحمد أثناء حضور حفل زفاف إحدى صديقاتها، ودون ترتيب مسبق، وجد كل منهما نفسه مشدوداً إلى الآخر بقوة، وبدأت بينهما علاقة صداقة وإعجاب من النظرة الأولى ومع مرور الأيام كانت المسافة الإنسانية والعاطفية تزيد القرب بينهما وتحولت العلاقة إلى حب لا يستطيع أحدهما الاستغناء عن الآخر فيه، وعرفت عنه كل شيء، أنه ابن تاجر كبير وتلقى تعليمه ما بعد الجامعي بإحدى الجامعات الأوروبية، وبعد الانتهاء من دراسته عاد والتحق بالعمل أستاذاً جامعياً في إحدى الجامعات الكبرى، كما كان نموذجاً للإنسان الملتزم المنظم في حياته يفكر جيداً قبل الإقدام على أي شيء، ولو بسيط وكل خطوة في حياته محسوبة بدقة، ويثق من نفسه، وشخصيته قوية، وبعد مرور أقل من عام على بدء العلاقة بينهما، فوجئت به ينتظرها أمام باب البنك الذي تعمل فيه على غير موعد سابق، واصطحبها إلى "كازينو"، ليتحدث إليها في أمر مهم وفاتحها برغبته في الزواج منها بأسرع ما يمكن، وعندما استفسرت منه وهي سعيدة عن سبب تعجله لإتمام الزواج، اعترف لها بأنه يفكر فيها ليلاً ونهاراً، وأنها العروس التي كان يتمناها طوال العمر، ويرجو أن يكمل معها مشوار حياته حتى النهاية، وكان شرطه الوحيد هو التفرغ له ولأولادهما، فوافقت دون تردد، وفي الموعد الذي حدده معها حضر مع والديه وطلب يدها وأعجب به جميع أفراد الأسرة، ورحبوا به ونال الموافقة على الفور وقدم أحمد شبكة غالية الثمن وأقيمت خطوبتهما في حفل رائع، وشعرت شيماء وقتها بأنها ملكت الدنيا بين يديها فقد توجت قصة حبها بالإطار الشرعي، واستمرت الخطوبة لعام، أعدا خلالها العش السعيد وما كان على شيماء إلا أن تختار ما تريده دون قيود، أما الشقة فقد كانت في أحد الأحياء الراقية ولم يكن هناك أي خلاف على الجهاز وسارت الأمور بيسر وتم الزواج في حفل زفاف أسطوري وسط فرحة الأهل والأقارب، وأمضى العريسان شهر العسل في مناطق سياحية عدة ومر شهر العسل عليهما كثوان مملوءة بالحب شعرت خلاله شيماء أنها حققت السعادة التي كانت تنشدها فلم يكن أحمد يتوقف عن التغزل في جمالها وكلمات العشق والغرام الجميلة لا تغادر لسانه ويعاملها برقة وحنان وعادا بعد شهر العسل إلى شقتهما الفاخرة وعاشا في سعادة دون أن يقصر أحمد في أي حق من حقوقها، بل كان يعتبرها الهدية التي أهداها إليه الزمان، وكان الناس يحسدونهما على حياتهما الزوجية السعيدة، واكتملت سعادتهما عندما رزقهما الله بثلاثة أطفال واحداً تلو الآخر، وفي النهاية جاءت الطفلة هدى وملأ الأطفال الأربعة حياة والديهما بالبهجة والسعادة، لكن الموت اختطف زوجها وهي ما زالت في ريعان الشباب، كانت تستطيع الزواج وقتها بكل سهولة، لكنها وعلى الرغم من الرجال المحترمين الذين حاولوا أن يخطبوا ودها فقد رفضت الزواج وكرست حياتها وشبابها لتربية أولادها، وأغلقت الباب على مشاعرها الخاصة كشابة في عنفوان الشباب حتى تخرج الأربعة جميعاً في الجامعة، الأكبر تخرج في كلية الحقوق والثاني في كلية الهندسة والثالث في كلية الطب والابنة حصلت على بكالوريوس الآداب وبعد تخرجها بقليل تزوجت من ابن خالتها الذي يشغل وظيفة مرموقة، وأصر على عدم عملها فوافقت على رأيه كما حدث مع أمها من قبل، وتزوج الأولاد الثلاثة زواجاً يحسدهم عليه أي شخص ولم تبخل عليهم أمهم بالأموال بعد وفاة والدهم ،خاصة أنها ورثت الكثير من والديها وتعرف أن ثروتها سوف تكون لهم في النهاية، وكانت تشعر بالسعادة عندما يطلب أحدهم منها نقوداً أو مساعدة مادية، وكانت كريمة معهم إلى أقصى الحدود، حتى أنها اشترت لكل منهم شقة تمليك كما كانت تنتهز فرصة أعياد ميلاد أولادهم لتمدهم بالأموال في صورة هدايا ثمينة لأحفادها الأعزاء، وخوفاً من أن تضايق أحداً من أولادها فقد رفضت العروض التي قدموها إليها لتقيم مع أحد منهم، وأكدت أنها لا ترتاح إلا في بيتها ولم تكن تزورهم إلا في المناسبات حتى لا تثقل عليهم، بطبيعة الحال كانت تزور ابنتها أيضاً ونظراً لأن زوجها ابن شقيقتها فقد كانت تشعر بأنها في بيتها وليست غريبة، لذلك كانت أحياناً تمضي عدة أيام عندهما ثم تعود إلى الفيلا التي تقيم فيها بمفردها، عندما شعرت بدنو الأجل وحتى لا يحدث أي خلاف بين أولادها الأربعة على الميراث فقد وزعت ثروتها عليهم حسب الشريعة الإسلامية، ودون أي محاباة لأحد منهم على أن يتسلم كل منهم نصيبه بعد وفاتها واستبقت لنفسها عائد التركة، لتنفق منه طوال حياتها، وتساعد من يحتاج منهم. تعجبت من وصول إعلان قضائي إليها، وكادت تصعق من هول المفاجأة، فأولادها الثلاثة اجتمعوا ضدها ويطلبون الحجر عليها بحجة أنها سفيهة وغير مدركة لتصرفاتها وأنها تعطي جزءاً كبيراً من ثروتها لابنتها الوحيدة، بعد أن روت العجوز حكايتها استدعى رئيس المحكمة أكبر الأبناء الثلاثة الذي يعمل محامياً يمتلك مكتباً للاستشارات القانونية، ووقف المحامي يتهم أمه بالجنون بسبب الشيخوخة، حيث بلغت ال 75 وأنها لا تدرك أفعالها ولا تصرفات من حولها، وغير ملمة بالحياة وتنفق أموالها ببذخ على شقيقته ابنتها الوحيدة بينما تحرمه هو وشقيقيه من أموالها وأضاف أن أمه أعطت لأخته مصوغاتها الذهبية الثمينة، التي تقدر قيمتها بنصف مليون جنيه على الأقل، مما أثار حفيظة زوجته وشقيقيه كما أن زوج شقيقته يستغلها ويستولي على أموالها، قررت المحكمة إحالة العجوز إلى مستشفى الأمراض العقلية للكشف على قواها العقلية، وبيان مدى إدراكها لتصرفاتها من عدمه وفي اليوم المحدد للجلسة التالية ورد إلى المحكمة خطاب من المستشفى يفيد بأن العجوز لم تحضر للكشف عليها، وتقدم ابنها المحامي وهو يبكي ويمسك في يده ورقة صغيرة قائلاً: أطلب الحكم بشطب الدعوى فقد توفيت أمه عقب خروجها من قاعة المحكمة في الجلسة السابقة، وقدم للمحكمة شهادة الوفاة.