جودت فخر الدين كم من كتّاب الشعر العرب يتعاملون اليوم مع تراثنا الشعري تعاملاً إبداعياً مثْمراً؟ بل، كم من هؤلاء الكتّاب يُحْسِنون قراءة هذا التراث أوّلاً، لكي يقدروا ثانياً أنْ يعملوا على تجاوزه أو استلهامه أو الإضافة إليه؟، هل تكون كتابةٌ إبداعيةٌ من دون قراءة (إبداعية) للتراث؟، وخصوصاً في مجال الشعر. الكثير من كتّاب الشعر في أيامنا لا يعبأون بهذه القضية، أو يحسبون أنها ليست جوهرية، وهشاشةُ علاقتهم بالتراث الشعري تظهرُ ضعفاً في كتاباتهم وآرائهم ومقالاتهم. هنالك الكثير من كتّاب الشعر في أيامنا يكادون لا يُحْسِنون التلفّظ، ولو ببيتٍ واحدٍ من الشعر العمودي، على نحْوٍ مستقيم، أي على نحْوٍ صحيحٍ في اللغة والوزن. والطريف جدّاً أنّ البعض من هؤلاء، وهم يتباهوْن بادّعاءاتهم (الحديثة)، لا ينتبهون إلى هذا النقص الفادح في تكوينهم الثقافي. الشاعر الناقد ت.س.إليوت، الذي يُعَدّ رائداً للحداثة الشعرية، والذي كان له خلال النصف الثاني من القرن الماضي تأثيرٌ واضحٌ في العديد من شعراء الحداثة العرب، يركِّزُ على أهمية العلاقة بالتراث في كلامه على الشعر الجديد أو على الشاعر المجدِّد، فالشاعر المجدِّد حقّاً هو، في نظره، الذي يستوعبُ تراثَ أمته، وهو الذي نجدُ في شعره نكهةَ أسلافه. هذا الكلام لإليوت لا يدعو إلى تقليدٍ أو تكرار، وإنما هو من أرقى الكلام على التجديد، الذي يريدُهُ إليوت قائماً على استيعاب التراث وفهْمه والتفاعل معه، لكي تكون هنالك إمكانيةٌ لتجاوزه، والإضافة إليه إضافات إبداعيةً جديدة. هذا التوجّه السديد الذي عبَّرَ عنه إليوت، أين منه اليومَ معظمُ كتّاب الشعر عندنا؟ لقد ضعفت العلاقةُ كثيراً بين هؤلاء وتراثهم الشعري، وهذا الضعف هو من مظاهر الفوضى والتخبّط اللذيْن تسقطُ فيهما اليومَ ساحتُنا الشعرية، بل ساحتُنا الثقافيةُ بوجهٍ عام. مع بدايات حركة الشعر العربي الحديث، التي انطلقتْ في منتصف القرن المنصرم، كانت قضيةُ العلاقة بالتراث - إلى جانب العلاقة بالآداب الأجنبية - واحدةً من القضايا الأساسية التي تصدّى لها المنخرطون في تلك الحركة، وبالأخصّ أولئك الذين تكوْكبوا حول مجلّة شعر، وراحوا ينشرون فيها كتاباتهم الشعرية أو النظرية. وبعض أولئك الشعراء، الذين عُرفوا لاحقاً بالروّاد، كانت علاقتُهم بالتراث واضحة في قصائدهم. هذه القصائد لم تشكِّلْ قطْعاً حادّاً مع التراث، بل إنّ أجملَها قد ارتكز إلى تفاعلٍ عميقٍ مع التراث، وتجلّى محتفياً به، خصوصاً بجوانبه اللغوية والبلاغية والعروضية. في الأجيال الشعرية التي تعاقبت بعد الروّاد، هناك شعراء استطاعوا أنْ يقيموا علاقاتٍ إبداعية بتراثنا الشعري، تجلّتْ في قصائدهم، وبعض هؤلاء لحقهم الكثيرُ من الغبْن، لأنهم لم يحْظَوْا بما يستحقّونه من الدراسة والنقد، اللذيْن بقيا مركَّزيْن على الروّاد. ولكنّهم لا يشكِّلون سوى قلّة قليلة بالقياس على الأعداد الكبيرة من كتّاب الشعر الذين يفتقرون إلى علاقة ولو بسيطة أومقبولة أوعادية بالتراث. إنّ العلاقة الإبداعية التي ينبغي لكلِّ شاعر عربيّ أنْ يقيمَها مع تراثنا الشعري، هي العلاقةُ التي تُحرِّر ولا تُقيِّد، هي التي تُطْلِقُ ولا تأسِر، هي التي تُغْني وتُمكِّنُ وتفتحُ المجالَ واسعاً نحْو آفاق شعرية جديدة. وهذه العلاقةُ لا تعني انغلاقاً، بل هي إمكانيةٌ أكبر للانفتاح على الثقافات المختلفة من كلِّ نوع. إنها العلاقةُ التي تقوم على المعرفة والتبصّر، فتستطيعُ أنْ تُقيمَ حواراً فعّالاً ومُثْمِراً مع تراثنا، الذي يظلّ حيّاً بتجلياته الإبداعية. أيكون هنالك إبداعٌ شعريٌّ من دون معرفة تراثية؟ jawdatfakhreddine@hotmail.com