بات الأمن الذي تعيشه المملكة في ارجائها الكبيرة والمتفاوته مضرب المثل، وهو ما حقق تنمية ومسيرة عطاء حظي بها كل مواطن على كل شبر من ثرا هذا الوطن، منذ بدايات التوحيد إلى يومنا الحالي. وحينما يتطرق الحديث إلى الأمن، فإن الشخصية الأولى التي يعود لها الفضل بعد الله هو الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه-، إذ وضع نقطة تحول في تاريخ الأمة الحديث؛ انتقلت بها من حال إلى حال، فمن الضياع والتمزق والشتات، ومن الفقر، والجهل، والمرض، والخوف، إلى الأمن، والاستقرار، والنظام، والوحدة، والتوحيد، والطمأنينة على مستوى الفرد والمجتمع، ونقل الشعب من الركود والتراخي الفكري، إلى النهوض والتقدم والعلم والمعرفة، والتنمية الشاملة في جميع الميادين والأصعدة. هذا ما يجعلنا في يومنا الوطني نستعيد من صفحات التاريخ تلك البدايات للأمن، ونسلط الضوء هنا على نبذة من الأمن الذي يعتبر أهم مكتسبات الوحدة الوطنية. من خطابات الملك المؤسس: «أبشركم بحول الله أن بلد الله الحرام في إقبال وخير وأمن وراحة» «إن البلاد لا يصلحها غير الأمن والسكون لذلك أطلب من الجميع أن يخلد للراحة والطمأنينة» الأمن في الجزيرة العربية: يقول أستاذ التاريخ في جامعة الملك خالد في أبها المؤرخ أ.د. غيثان بن علي بن جريس، متحدثاً عن أهم المحطات الرئيسية للأمن في الجزيرة العربية: إن في هذا المقام لا نستطيع تدوين دراسة وافية عن هذا الموضوع المهم، ولكن سنلقي الضوء على نبذة مختصرة، نوضح في بدايتها أهم المحطات الرئيسة للأمن في الجزيرة العربية وبخاصة المملكة. وأضاف: نجد مصادر التاريخ والتراث الإسلامي تشتمل على مئات الصفحات التي تفصل الحديث عن حالات الفوضى وعدم الاستقرار في الجزيرة العربية، ابتداءً من العصر الأموي (40-132ه/660-749م) الذي انتقلت فيه عاصمة الدولة الإسلامية من المدينة المنورة إلى دمشق، وانتهاءً بالقرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) الذي فقد العرب نفوذهم، وحل محلهم نفوذ الفرس ثم الترك، وبالتالي عادت حياة القبائل في الجزيرة العربية إلى حياة السلب والنهب والغزو بهدف كسب أرزاقهم ومعايشهم، كما ضعف الوازع الديني في نفوس الناس، مع عدم وجود حكومة تبسط نفوذها عليهم، مما خلق فوضى عارمة لسكان الحواضر، وكذلك البدو الرحل، ولم يسلم أيضاً الحجاج والمعتمرون الوافدون إلى الحرمين من نشر الرعب بينهم، وسلب أموالهم والاعتداء على أرواحهم. وتابع بن جريس: استمر الحال بين شد وجذب، وقوة وضعف، إلى قيام الدولة السعودية الثالثة عام (1319ه/1901م) على يد الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل، الذي استطاع بقوة شخصيته وعلو همته بسط نفوذه على معظم الجزيرة العربية، والسيطرة على القبائل التي تعيش في جنباتها، وتجاوز الفروق الاجتماعية والعرقية بينها، ومن ثم صهرها في مجتمع واحد يدين بالإسلام، ويخضع لحكومة واحدة باسم "المملكة العربية السعودية" التي تنعم بالأمن والاستقرار والرخاء. اضطراب الأمن قبل التوحيد: وبيّن د. الجريس أن الفاحص لمصادر تاريخ الجزيرة العربية ومراجعها خلال القرن الثالث عشر والنصف الأول من القرن الرابع عشر الهجريين، يجدها قد أسهبت في الحديث عن حياة الناس العامة والخاصة في جزيرة العرب، ويلاحظ أن الأمن كان مضطرباً وأحياناً كثيرة مفقوداً، وهناك بعض الشعراء العرب والمسلمين أمثال أحمد شوقي وغيره الذين نظموا العديد من القصائد العربية التي صوروا فيها فقدان الأمن في الأماكن المقدسة، وكيف أن الحجاج كانوا يعانون من السلب والنهب والفوضى أثناء أداء مناسك الحج والعمرة، وبعد ظهور الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل، فرض السيطرة على الرياض عام (1319ه/1901م)، وكان من أهم أعماله أن سعى إلى توحيد البلاد وتوطيد الأمن فيها. وقال د. غيثان: هناك مؤرخون وكتاب دونوا تفصيلات عن تاريخ الأمن في المملكة العربية السعودية، وكتاب "الملك عبدالعزيز رؤية عالمية"، الذي صدر عام (1415ه/1994م) يحتوي على معلومات وشهادات عديدة لمؤرخين ومفكرين وسياسيين وقضاة من مختلف الجنسيات، يذكرون فيها حالة الأمن في الجزيرة العربية وبخاصة في بلاد الحجاز، أرض المقدسات، أثناء عصر الملك عبدالعزيز الفيصل، ونكتفي هنا بذكر شهادة واحدة سجلها الزعيم الهندي "جواهر لال نهرو" في رسالة بعثها إلى ابنته "أنديرا غاندي" في (3/يونيو/1933م)، قال فيها: "... كان أول عمل ناجح قام به الملك عبدالعزيز، هو إقرار الأمن داخل البلاد، فأصبحت في وقت قصير قوافل الحجاج تسير بطمأنينة كبيرة، وكان هذا انتصاراً عظيماً سُرَّ له الناس كثيراً، لأن الحجاج كانوا في السابق معرضين للنهب والسلب أثناء سفرهم". الأهداف الأمنية في عهد المؤسس: وتابع أستاذ التاريخ في جامعة الملك خالد في أبها: "أدرك الملك عبدالعزيز أن الأمن والاستقرار صنوان ودونهما لا يمكن أن تقوم دولة أو يتحقق رخاء ونمو، ومن ثم فكان شغله الشاغل تحقيق الأمن في البلاد، ولم يشغله عن ذلك خوص الحروب وتجهيز الجيوش لإخماد الفتن، وقد وضع لتحقيق أهدافه سياسة قوية وواضحة تقوم على ثلاث ركائز رئيسة، وهي: تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في جميع شؤون الحياة في البلاد، وتحقيق التنمية الشاملة، وتوفير سبل الحياة الكريمة لجميع المواطنين بمختلف فئاتهم، وأخيراً إقرار الأنظمة والتعليمات وإصدارها، وذلك من أجل توطين دعائم الأمن والنظام وفرض هيبة الدولة. وأشار إلى أن تطبيق الشريعة الإسلامية في أنحاء البلاد، قاد الناس بفضل الله إلى جمع الكلمة وتوحيد الأمة تحت راية واحدة هي "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، كما أن الملك عبدالعزيز -يرحمه الله- دعا إلى عدد من الإصلاحات التي أدت إلى توحيد البلاد وتوطيد الأمن فيها، ومن تلك الأعمال الإصلاحية تحضير البادية وتوطينهم، وتوفير المعدات الزراعية، وحفر الآبار الارتوازية، وإحكام ربط القبائل بشيوخها، وجعل أفرادها متضامنين في المسؤولية، ومنع الصراعات فيما بينهم، وتوعيتهم وتعليمهم أمور دينهم، وتتبع أخبار الجرائم، وسرعة إحالة القضايا إلى المحاكم الشرعية للبت فيها، وتنفيذ الأحكام الشرعية وإشهارها بين الناس. كما أن حكومة الملك عبدالعزيز أقرت العديد من الأنظمة والتعليمات التي رسخت دعائم النظام والأمن في البلاد، واعتمدت في ذلك على عدد من الوسائل والإجراءات، مثل إنشاء الأجهزة الأمنية المتخصصة لتنفيذ الأنظمة والتعليمات التي تهدف إلى إقرار الأمن والنظام وحماية الأرواح والممتلكات ومنع الجرائم ومكافحتها، والاجتهاد في اختيار الرجال الأكفاء الذين تتوفر فيهم الخبرة والاستقامة وقوة الشخصية للإشراف على الأجهزة الأمنية، واستعمال جميع الوسائل والمعدات المستخدمة لمكافحة الجريمة والكشف عنها، مثل: تتبع المجرمين والهاربين باقتفاء آثارهم، وتقصي أخبارهم، وأخيراً تجنيد الطاقات البشرية وتسخير الإمكانات المادية أثناء مواسم الحج والعمرة لخدمة الحجاج والمعتمرين وتأمين راحتهم وسلامتهم. خطابات المؤسس ووضوح سياسته: وأردف الجريس: "نجد أن الملك عبدالعزيز -يرحمه الله- كان واضحاً في سياسته التي تهدف إلى توحيد البلاد ونشر العدل والأمن في أرجائها، ففي أحد خطاباته بتاريخ (8/6/1344ه) يقول: "وإني أبشركم بحول الله وقوته أن بلد الله الحرام في إقبال وخير، وأمن وراحة، وإنني سأبذل جهدي فيما يؤمن البلاد المقدسة، ويجلب الراحة والاطمئنان لها ..."، ويقول أيضاً: "... إن البلاد لا يصلحها غير الأمن والسكون، لذلك أطلب من الجميع أن يخلد للراحة والطمأنينة، وإني أحذر الجميع من نزغات الشياطين، والاسترسال وراء الأهواء، التي ينتج عنها إفساد الأمن في هذه الديار، فإني لا أراعي في هذا الباب صغيراً أو كبيراً، وليحذر كل إنسان أن تكون العبرة فيه لغيره". واختتم د. غيثان حديثه ل "الرياض"، أن هذه سياسة الملك عبدالعزيز الفيصل الواضحة والقوية والنزيهة، والتي استطاع من خلالها أن يجمع شمل بلاد مترامية الأطراف، بعد أن كان يخيم عليها الجهل والتفكك والفوضى والخوف، وجاء من بعده أبناؤه الذين ساروا على سياسة والدهم ومنهجه، فتطورت البلاد في كل مناحي الحياة، وصارت من الدول الإقليمية والعالمية التي يُحسب لها حساب في جميع المجالات السياسية والحضارية، ومن ينظر في أوضاعنا وأوضاع بلادنا اليوم، وما يحيط بها من رزايا وأحداث جسام، فذلك يجعلنا نبذل قصارى جهودنا للحفاظ على وحدتنا وأمننا ومقدساتنا، بل إن على كل فرد من أبناء هذه البلاد مسؤولية كبيرة تجاه بلاده ودينه ومقدساته، فليعمل كل في مجاله بهدف البناء وترسيخ الوحدة والتآزر لنصرة الدين والوطن.