×
محافظة المنطقة الشرقية

حادث مروري لخمس معلمات بالشرقية

صورة الخبر

هذه الجماهير بقدر ما يتم تجهيلها وتغييب الحقائق عنها؛ بقدر ما تكبر صدمتها، عندما تكتشف أن هؤلاء السدنة الذين وثقت فيهم غاية الثقة كانوا يمارسون عليها سياسة التجهيل المتعمد يستطيع أي (مراقب ثقافي) للوعي العام عند جماهير التقليدية أن يرى مستويات الجهل والتجهيل، التي تُشكّل – بتضافرها – مجتمع الجهل النموذجي، ذلك المجتمع الذي قلَّ أن نجد له مثيلا في التاريخ. إنه مجتمع داخل مجتمع، مجتمع جاهل بنفسه ابتداء، جاهل بتاريخه؛ ومن ثَمّ بحقيقة هويته، جاهل بواقعه؛ ومن ثم بمستقبله، جاهل بالآخر من حيث هو جاهل بالذات ابتداء. إنه (مجتمع غفوي) بامتياز، يعيش حالة توحش ويعتاش عليها بمحض غرائزه البدائية التي تفتح لها ثقافة الجهل وسياسة التجهيل إمكانية تطبيع الأفظع والأبشع والأشنع على أوسع نطاق. الخطاب التقليدي الحشوي بغثائيته، وعبثيته، وتضمنه لشتى أنواع المقولات الخرافية المصادمة لبدهيات المعقول، يُشكّل بُنية جهل متماسكة، تغذي – بمجرد وجودها في الواقع كثقافة – مستويات الجهل. مَن يقتات على هذه الثقافة – بوصفها أفق وعي – لا بد وأن يصبح مثالا واقعيا للجهل المركب، الجهل المظنون علماً، الجهل الذي يغتبط به أصحابه، معتقدين أنهم كلما أتقنوه حفظا وتدويرا (إعادة إنتاج)؛ كانوا أعلم وأحكم، بينما هم يزدادون جهلا وحمقا، وتنخفض لديهم القدرة على تصور الذات والآخر، والواقع والتاريخ والمستقبل، بمقدار انخراطهم في هذا الخطاب البائس. ليس هذا فحسب، الأدهى والأمر – كما يُقال – أن هذا الخطاب، الذي هو خطاب الجهل، لا يمارس التجهيل بتلقائية (التجهيل اللاواعي)، أي بمجرد كونه حشوا غثائيا ووعيا خرافيا يؤدي إلى تجهيل كل من يعتقده علما فقط، وإنما يمارس التجهيل بمستوى آخر، بمستوى واعٍ بالعملية التجهيلية، حيث يمارس سدنة هذا الخطاب – على اختلاف مواقعهم في سُلّم السدانة – سياسة تجهيل متعمدة تجاه الأتباع الرعاع، الذين يجري تسريب المقولات/ المعلومات/ الأخبار إليهم بشكل يجعلهم أكثر جهلا وسذاجة و(عبطا) من ناحية، وأكثر تعصبا وتطرفا من ناحية أخرى؛ ليكونوا – في النهاية – أكثر انقيادا وخضوعا واستعدادا لفعل كل ما يطلبه سدنة الخطاب، خاصة وأن سدنة هذا الخطاب يخلطون ثقافتهم التقليدية التجهيلية بالمقدس الديني؛ ليُوهموا «الهمج الرعاع» (كما وصفهم الإمام علي قديما) بأن ما يأمرونهم به هو ذات أوامر الله، وبالتالي، فإن طاعتهم كسدنة، هي – كما يزعمون كذبا – عَيْن طاعة لله، تعالى الله عما يزعمون علوا كبيرا. إذن، ثمة خطاب جهل وتجهيل يعمل على تدمير الوعي الجماهيري بمحض وجوده كخطاب فاعل في الواقع، وثمة استراتيجية واعية للتجهيل المتعمد، وذلك بالتعاطي الانتقائي والتدليسي مع مقولات التراث، كما مع أحداث الواقع. لقد تكلمت قديما (في أكثر من مقال في هذه الصحيفة الرياض -) عن خطاب الجهل، من ناحية بنيته ومن ناحية دوره الوظيفي في الواقع. لكن ما أتحدث عنه اليوم هو عملية التزييف والتزوير المتعمد الذي يمارسه سدنة خطاب الجهل والتعصب على أتباعهم؛ ومحاولة منع هؤلاء الأتباع من الاطلاع على حقائق ثابتة – بأعلى درجات الثبوت التراثي – من شأنها أن تربك خططهم التي يرسمونها بكل دأب لبناء كتل جماهيرية متعصبة قابلة للانقياد التام. تعمد «استراتيجية التجهيل المتعمد» إلى استحضار التراث الديني والتاريخي مُفَلْترا بانتقائية تتجه بوصلتها نحو التشدد والتطرف وإقصاء الآخر. يجري بتر المعلومة عن قصد، أو عرضها في سياق ينقلها من معناها الأصلي إلى المعنى الذي يريد السادن المتطرف ترسيخه في جماهيره الغوغائية، إذ إن هدف هذا السادن هو تطويع هذه الجماهير البائسة له بواسطة تجهيلها من جهة، ورفع درجة تعصبها ضد الآخر – أي آخر يختلف عنه أو معه، بوصفه خصما حركيا – من جهة أخرى. وبالتالي، فإن الهدف في النهاية لهذا التجهيل هو هدف حركي سياسي، ينتهي بخدمة الأهداف السياسية للإسلاموية المتطرفة التي تجعل من الجماهير وقودا لصراعها من الحكومات التي تريد إسقاطها والحلول مكانها، ومن ثم، تأسيس دولة الخليفة المزعوم. لو أن هذه الجماهير اطلعت على كل ما في تراثها وكل وما حدث في تاريخها، ولو برؤية غير نقدية؛ لأصبحت أقلّ جهلا، ومن ثم أقل تعصبا وتطرفا مما هي عليه الآن. صحيح أن المطلوب هو اطلاع واسع - غير انتقائي - على التراث، برؤية عقلانية/ نقدية، تربط التراث بهموم الحاضر والمستقبل. لكن، إن فات عليها هذا، فعلى الأقل، لا يفوت عليها الاطلاع على التراث كما هو؛ بكل تنوعه وثرائه، فهذا أفضل مما هو حاصل الآن من اطلاع انتقائي أحادي، يدعم التعصب والتطرف وكراهية الآخرين. والمقصود أن هذه الجماهير بتضاعف السلبية هنا، يجتمع عليها غياب الرؤية النقدية للتراث، وغياب المعرفة بالتراث كما هو، فتكون النتيجة ما نراه من تعصب وتطرف وإرهاب يصل حد الجنون في أكثر الأحيان وفي أكثر من مكان. أُدْرك أن ما أقوله - نظريا - هنا يحتاج لأمثلة؛ حتى تتضح الصورة، على الأقل حتى تتضح للجماهير التي ينتقد هذا المقال وَعْيها الراهن. طبعا، الأمثلة كثيرة، وكثير منها لا يسمح السقف المتاح بتناوله على الوجه الأكمل. لكن، يمكن أن نكتفي بمثال شائع يشتبك مع واقع حياة كل الناس، ألا وهو حكم (وجه المرأة) من حيث وجوب أو عدم وجوب تغطيته، كحكم يستمد شرعيته من أصل التشريع الديني، وليس من عادات وأعراف الناس. لقد كان خطاب الجهل يطرح رأيا واحدا، حاشدا له الأدلة النقلية والعقلية (طبعا، ما يتوهمه أدلة عقلية)، بأسلوب حشوي عبثي ينتهي بمُتَلقيه إلى أن يتشبّع وَعْيه بكل صور العبث واللامعقول، أي باختصار؛ يتشبع الوعي الجماهيري بالجهل المظنون علماً. هذا المستوى، هو ما أطلقت عليه: خطاب الجهل والتجهيل، أي الخطاب الذي يمارس التجهيل بصورة تلقائية، غير واعية بدورها التجهيلي. لكن، هناك مستوى آخر، قد يتقاطع – متعاضدا – مع المستوى الأول، إلا أنه يختلف عنه من حيث كونه واعيا تمام الوعي أنه يقوم باستراتيجية تجهيل، تريد صناعة جماهير متعصبة منقادة، تستخدمهم لمشروعها الحركي. هذا المستوى يظهر بوضوح في التغييب المتعمد للنصوص والأقوال التي تعكس قوة رأي الطرف الآخر في المسألة (وجه المرأة)، بل وفي بتر/ فَلْتَرَة كثير من النصوص والأقوال، إضافة إلى تشويه الطرف الآخر، تشويهه من ناحية التشكك في علميته (حتى ولو كان من كبار علماء الإسلام)، والتشكيك في نيّته، إلى درجة شيطنته، واعتباره – صراحة أو ضمنا - عدوا من أعداء الإسلام!. استراتيجية التجهيل آتت أُكلها؛ كما في هذا المثال. تكوّنت كُتَل جماهيرية متعصبة، لا تعرف إلا رأيا واحدا في هذه المسألة، وإن سمعت بالرأي الآخر، فقد سمعت به مشوها غاية التشويه، إما بالتسفيه، وإما بتغييب رأي الأعلام فيه، فلم تعرف حجمه في المدونة الفقهية، واعتقدت أن كل مَن يطرح هذا الرأي الذي يختلف عن الرأي الذي تم تجهيلها به، هو صادر عن قلة علم، وعن شدوذ وانحراف عن تيار الفقه العام، بل وعن نية فاسدة تريد إفساد المجتمع بإشاعة الفجور والانحلال. والأهم (وهو الهدف الحركي المقصود) أن هذه الجماهير بعد أن تغذّت بهذا الجهل، وانخرطت في استراتيجية التجهيل، أصبحت متطرفة متعصبة، لا تسمع ولا ترى إلا ما يقوله لها سدنتها الذين غذوها بهذا الجهل، فأصبحوا يتحكمون في وعيها تماما، يتحكمون في آمالها، بل وفي آلامها (أصبحت هذه الجماهير تتألم لما يراه السدنة مؤلما فقط)، يتحكمون في تصورها عن السماء وعن الآخرة، كما في تصورها عن الأرض والدنيا، يختطّون لها طرائق الحاضر ومعالم المستقبل، يصنعون لها كل شيء، حتى أذواقها في الملبس والمأكل وفي كيفية قضاء أوقات الفراغ/ الترفيه!. لكن، تبقى مشكلة هؤلاء السدنة أن الزمن لا يسعفهم تماما لتحقيق استراتيجية التجهيل. بل كثيرا ما ينقلب السحر على الساحر. وانظر واقع كثير من جماهير التقليدية عندما اكتشفت أن القول ب(جواز كشف المرأة وجهها) هو رأي الغالبية العظمى من كبار فقهاء الإسلام في القديم والحديث، وأنه الرأي الذي تدعمه الأدلة النقلية والعقلية بشكل واضح، كَمًّا وكيفا. لقد فقد كثيرون ثقتهم بوُعّاظهم بعدما قرأوا ما كان يخفيه هؤلاء عنهم، وباتوا يتشككون في كل ما يصدر عن هؤلاء الذي مارسوا عليهم سياسة التجهيل في مدى زمني طويل. إن هذه الجماهير بقدر ما يتم تجهيلها وتغييب الحقائق عنها؛ بقدر ما تكبر صدمتها، عندما تكتشف أن هؤلاء السدنة الذين وثقت فيهم غاية الثقة كانوا يمارسون عليها سياسة التجهيل المتعمد، بل كانوا يستَحْمِقُونها، ويرونها مجرد قطيع بشري، يركبونه - كمطية ذلول - إلى أهداف شخصية وحركية، لا علاقة لها بصحيح الإسلام. نعم، قد يساعد هؤلاء السدنةَ في تمرير سياسة التجهيل أن هذه الجماهير تعاني من كسل قرائي فظيع، وبالتالي يتأخر كثيرا اكتشافها للحقائق التي جرى تغييبها أو بترها أو تدليسها. لكن، زمن الانفتاح في وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي يعمل في الاتجاه المضاد لهذه الاستراتيجية، ففي كل يوم – رغم كل التحصينات التي يضعها السدنة على أتباعهم - تكتشف هذه الجماهير حقيقة موثقة جرى تغييبها أو طمس معظم معالمها، بل وتكتشف أن ما تشتم به الآخرين تدنيسا وتقبيحا وتشويها وتجهيلا، هو جزء أصيل مرتبط بمقدساتها الأولى من رموز وأشخاص ومقولات. وهنا يبدأ صراع مرير، يبدأ من الصراع مع الذات ومع ما يمثلها، ومع المتسببين بكل هذا التجهيل، وقد ينتهي إلى انقلاب في الوعي والمواقف، بل وإلى ما هو أعظم!.