الطب من أسمى المهن التي عرفها الإنسان منذ أن عرف العيش في مجتمعات تكافلية، يشدُّ أفرادُها بعضهم بعضا؛ والطبيب يُمارس مهمة نبيلة سامية، تهدف إلى حماية صحة أفراد مجتمعه وعافيتهم، وتُخلصهم من آلام الأمراض والأوجاع، وغوائل الأوبئة، ممهدا لهم السبل لممارسة الحياة السعيدة الهنية، كما يجب أن يحياها الإنسان. فإذا فقد الطب غاياته السامية هذه، وتخلى الطبيب عن رسالته النبيلة، وتحول الطب إلى عملية تجارية، تبحث عن الأرباح، وتتصيد المرضى؛ بصبح الطبيب تاجرا، قضيته الكسب، وغايته المال،عندها قد يصبح الطبيب في هذه الحالة لا يختلف عمليا عن بائع المخدرات الذي يبيع لك وهم السعادة، لكنه ينهب منك صحتك، لتصب أرباحا في حسابه البنكي. من الظواهر التي انتشرت واستشرت وتفشت في مدننا (الحديثة) شكلا لا مضمونا، ظاهرة (الطبيب التاجر)، والمستشفى التجاري، بعد أن شملت هرولتنا نحو (الخصخصة) مجالين حيويين: (الطب) و(التعليم) دون أن نضبطهما بقوانين مُحكمة لتكبح جماح الطمع الإنساني كيلا ينحرف بها عن غاياتها النبيلة السامية. التعليم الأعلي سأتحدث عنه في مقال لاحق، وساتحدث في هذا المقال عن ظاهرة (الطبيب التاجر)، الذي أصبحت عياداتهم ومستشفياتهم في مدننا، مثل (بياعي الجح)، يلقونك ببضاعتهم في كل شارع وزاوية؛ وهذه الظاهرة لم تكن معروفة إلا بعد أن اقتحم شغفنا (المتهور) بالخصخصة كل المجالات الحيوية، التي كانت في الماضي من مهام القطاع العام، إلا ما ندر وفي نطاق ضيق محدود. وأنا هنا لست ضد الخصخصة ومشاركة القطاع الخاص في هذه الخدمات الحيوية، ولكن أن تفتح أبواب هذا المجال الإنساني على مصراعيها ليتاجر فيها المتاجرون، دون (قوانين) تضبط العلاقة بين المريض، الذي في هذه الحالة هو (المستهلك)، والطبيب الذي هو في هذه لحالة (التاجر)، فنحن لا نؤسس تنمية مدنية على أسس ومقومات سليمة وعلمية ومتحضرة، وإنما نعيد ترميم (حارة كل من إيدو إلو) بمظهر مدنب خداع، فكل من يملك المال (يفتح له مستشفى أو عيادة)، ويضع الأسعار والتكاليف كما يضع بياع التجزئة أسعاره، لا يحده إلا آلية العرض والطلب، وليس بعد ذلك لا رقيب ولا رقابة، ولا حسيب ولا محاسبة. في حين أن قطاع الطب الخاص في الدول المتحضرة هو حلقة ضمن منظومة، المنشأة الطبية الخاصة حلقة، والطبيب ومهامه حلقة، والتأمين الطبي حلقة، والخدمات المختبرية حلقة، والخدمات الصيدلية حلقة، وأنظمة الدولة حلقة، والتقاضي بين المتعلقدين حليقة، وهذه الحلقة بالذات من شأنها ضبط وتنظيم العلاقة بين المريض وهذه المنشآت الطبية بمختلف أنواعها، لتنأى بالمنشأة الطبية الخاصة عن الغش والاستغلال والترصد والجشع، لتكون هذه الحلقات مُجتمعة بمثابة المنظومة المتكاملة، التي يعضد بعضها بعضا؛ فإذا غابت منها حلقة أو اختلت أو ضعفت تختلُّ حلقات المنظومة بالضرورة، وينعكس اختلالها على الخدمات الصحية بكاملها. ولأننا خصخصنا الطب، وليس ثمة قوانين، ولا هيئات قضائية متخصصة ومؤهلة أصبح المجال الطبي، و الأطباء، مجالا خصبا و (مربحا) لاحتلاب الأموال من الأمراض، خاصة والقانون يسمح للطبيب في المستشفى الحكموي أن يعمل فيه ويتقاضى راتبا، ويعمل في مستشفى تجاري ثاني وثالث ورابع ويشارك المستثمرين في عوائدهم،و ما يربحون. أما المتضرر النهائي، ومن يدفع المال، ويخاطر بصحته فهو المريض الذي يأتي إليهم مذعنا، لا يملك أن يقول: لا، لأنه إذا أبدى أية ممانعة، فإنه ربما سيدفعها من صحته ومعاناته مع المرض، فيضطر إلى القبول مرغما لا مختارا. كلنا أمل بل ورجاء أن يتنبه (وزير الصحة) الجديد إلى غياب القوانين الكابحة للطمع؛ اسيما وأن من شأن غياب هه الثوانيت أو حتى ضعفها ان وجدت، ان تخلق فراغا مميتا، حقيقة لا مجازا، والعمل بشكل عاجل على كبح جماح الأطباء التجار، لمنع هؤلاء الجشعين من استغلال المرض، للثراء وملء الجيوب بالمال الحرام، والضحية طبعا مريض ضعيف، أنهكته الأمراض، لا حول له ولا قوة. إلى اللقاء. نقلا عن الجزيرة