في فبراير 2010 قمت برحلة سياحية إلى منطقة تدعى "الجبال الزرقاء" خارج سيدني.. لم أكن وحدي حيث كانت برفقتي والدتي وزوجتي وأكثر من عشرين راكباً في الباص.. وفي طريق العودة جلس بقربي رجل وزوجته يملكان سحنة شرق أوسطية.. وبعد ساعة من الصمت التفت نحوي وقال: من أين أنت؟ استغربت جرأته (وستعرفون لماذا) ولكنني قلت بهدوء: من السعودية.. لم أسأله بالمقابل من أين أنت، ولكننا بدأنا حديثاً طويلاً شاركت فيه زوجته وزوجتي.. وحين دخلنا سيدني - وبعد إيصال بعض السياح لفنادقهم - حان دورهما في النزول فبدآ بلملمة أغراضهما.. وقبل خروجه من الباص صافحني قائلاً: أنت رجل لطيف مستر فهد.. ثم ابتسم بطريقة خبيثة وقال: ولكن هل تعلم من أين أنا؟.. ابتسمت بخبث أكبر وقلت: من إسرائيل.. اختفت الابتسامة من وجهه وقال: كنت تعرف ذلك منذ البداية!؟.. أومأت برأسي "نعم".. ارتسمت على وجهه ملامح التعجب ونزل مع زوجته دون أن يضيفا شيئاً! وما حدث هنا أنني عاملت الرجل كما تربيت أنا وليس كما يفعل الإسرائيليون مع الفلسطينيين (خصوصا في ذلك الوقت).. كان التعامل معه بلطف وأدب هو الخيار الأفضل والأكثر فعالية - بل والوحيد في ظروف كهذه.. لم أكن سأنجح في تغيير آرائه المسبقة عن العرب بدون هذه الطريقة - هذا لو افترضنا تغيرها.. لم يكن العرب سيكسبون سمعة أفضل لو شتمته أو ضربته أو اعتديت عليه أمام جنسيات عالمية يمتلئ بها الباص - وتجهل خلفية العلاقة بين الطرفين!! .. ما أود قوله ان هناك فرقاً كبيراً بين أن تحب شخصاً ما، وبين أن تتعامل معه برقي وأدب.. فأنت مثلاً لست مجبراً على حب واحترام جميع من حولك، ولكن يفترض بك أن تعاملهم بلطف وأدب وطريقة تثبت أصلك الراقي وتربيتك الكريمة.. وحين تتأمل سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم تجد مواقف كثيرة اعتدى فيها أحد الجُهال على مقامه الكريم - لدرجة يقوم أحد الصحابة غاضباً ويستأذن الرسول لضرب عنقه - فيبتسم الرسول ويحتوي غضب الطرفين بطريقة تجتذب المتطاول وتقنعه بعظمة الرسول وسمو الرسالة.. انظر كيف تصرف مثلاً مع كفار قريش حين فتح مكة وتوقع منه الجميع الثأر والانتقام.. انظر كيف تنازل عن حقه في محاسبة من قتل وسرق واعتدى على المؤمنين - أيام ضعفهم في مكة - وارتفع فوق كل هذا وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء!! وفي الحقيقة كل إنسان يعتمد هذا المبدأ لابد أن ينتصر في النهاية ويثبت للآخر - وللعالم أجمع - كيف أنه صاحب حق وخلق كريم.. انظر إلى غاندي وكيف حرر الهند بطريقة سلمية ونبيلة أحرجت إنجلترا وأكسبته حب الملايين داخل بريطانيا نفسها.. انظر إلى نلسون مانديلا في جنوب أفريقيا وكيف اعتمد سياسة العفو والمصالحة مع الأقلية البيضاء - رغم أنهم سجنوه ثلاثين عاماً - فاستمرت دولته في النمو والازدهار دون حرب أهلية أو إراقة دماء.. اسأل أي طالب مبتعث في أمريكا كيف يتعامل معه اليهود هناك ستفاجأ بأنهم من أكثر الناس أدبا ولطفا مع العرب والمسلمين (وهذا ليس حباً بنا بل لأنها استراتيجيه فعالة لكسب القلوب وتغيير الآراء المسبقة)!! .. وأنا بدوري أنصحك باعتماد هذه الاستراتيجية والتعامل مع الناس - ليس كما يعاملونك - بل كما يفترض بأصلك الكريم وأخلاقك النبيلة.. لا أدعوك الى التخاذل أو طأطأة الرأس، بل إلى إحراج من يسيء إليك من خلال التعامل معه بطريقة راقية و"غير متوقعة".. نعم؛ قد يكون من حقك معاملة المسيئين بالمثل، ولكنك لست مجبراً على النزول لمستواهم لأنك في النهاية تتعامل معهم كما تربيت "أنت" وليس كما تربوا "هم"!!