×
محافظة مكة المكرمة

عام / هطول أمطار على منطقة مكة المكرمة

صورة الخبر

لم يخف أحد أن ثمة ثورة صامتة تسري في صفوف اليسار الأوروبي منذ وقت ليس بقليل. ففي معظم دول أوروبا الغربية، يجبه الحرس القديم الاشتراكي- الديموقراطي تحديات بروز تيار يساري راديكالي جديد. ويبدو كأن عدوى الشعبوية بلغت أخيراً اليسار بعد أن كادت أن تكون حكراً على بعض أوساط اليمين. وقد يوحي فوز «سيريزا» (في اليونان) و»بوديموس» (في إسبانيا) أن هذه الظاهرة تقتصر على دول جنوب أوروبا الغارقة في الأزمة الاجتماعية والاقتصادية. ولكن في ألمانيا حزب «دي لينكي» اليساري المتطرف صار على رأس مقاطعة تورينج. وفي الدنمارك، حازت أحزاب اليسار البديل أكثر من 16 في المئة من الأصوات في الانتخابات التشريعية في حزيران (يونيو) الماضي. والحلقة الأخيرة من سلسلة مؤشرات هذا المد المتطرف هي بروز جيريمي كوربن، البرلماني الإنكليزي ابن الـ66 عاماً الذي يبدو أنه سيتصدر الحزب العمالي. ووقع تقدمه هذا وقع المفاجأة على المراقبين. ولا تختلف أفكار كوربن عن أفكار اليسار الاقتصادية والدولية. وتثير رؤيته الحماسة والإعجاب. ومثل هذا الأثر كان مستبعداً قبل أعوام قليلة. وكثر من المتعاطفين مع الحزب العمالي والمنتسبين إليه انضموا إلى صفوفه أخيراً، اثر هزيمة «العمال» في الانتخابات التشريعية في أيار (مايو) المنصرم. واستمال كوربن عدداً كبيراً من ناخبي اليسار البريطاني إليه. وثمة عاملان وراء هذا الميل، أولهما الإعجاب بتحليلات توما بيكيتي في بريطانيا. وهذا الإعجاب يشير إلى رغبة في العودة إلى الأسس والأصول الاقتصادية إثر ما يراه كثر أنه «فاصل أو قطيعة بليري(ة)» (نسبة إلى توني بلير). وخلص كثر من هزيمة إد ميليباند الانتخابية، على رغم توجيهه سهام النقد إلى سياسات «نيولايبور» (مرحلة من تاريخ الحزب العمالي هيمن فيها عليه توني بلير ثم غوردن براون)، إلى أن القطيعة الكاملة مع هذه المرحلة واجبة. ويستحسن الناخبون استقرار آراء كوربن السياسية وتمسكه بها طوال ثلاثين عاماً من الحياة السياسية. فهو اقترع 500 مرة ضد مجموعته البرلمانية. وصورة ثباته على رأي واحد تلقى أثراً إيجابياً في أوساط الناخبين. فهو، على خلاف المرشحين الثلاثة الآخرين، غير مرتبط بإخفاقات 2010 و2015 الانتخابية. ولكن احتمال فوزه يمتحن اليسار البريطاني والأوروبي على مستويين: صدقية برنامجه وتماسك استراتيجيته الانتخابية. وعدد من الاقتصاديين من المدرسة الكينزنية والمحسوبين على اليسار يدافعون عن برنامج كوربن. ولكن ثمة أوجه شبه كبيرة بين هذا البرنامج والمشاريع اليسارية التقليدية. وهو لا يتناول تحديات اقتصاد معولم - ومثل هذا الاقتصاد ركنه هو الابتكار- لا من قريب ولا من بعيد. ولكن هل السبيل إلى الازدهار هو ضخ الأموال في عجلة الاقتصاد وتأميم المؤسسات وزيادة الإنفاق العام؟ وتوحي تجارب الدول والمناطق التي أرست ازدهار مستدام بخلاف ذلك. ولا يستند الازدهار في ألمانيا والدول الاسكندينافية وشمال إيطاليا إلى زيادة الإنفاق العام أكثر مما يستند إلى استراتيجيات التعليم والتخصص الطويلة الأمد، واللامركزية والتعاون بين القطاعين الخاص والعام. ويبدو أن كوربن يسعى إلى اقتصاد موجه، على نحو ما فعل فرانسوا ميتران في فرنسا بين 1981 و1983. ولكن هل تصمد مثل هذه السياسة أمام تحديات تترتب على قلق المستثمرين الأجانب، واختلال الميزان التجاري وفقر البريطانيين جراء تراجع معدلات الصرف (العملة)؟ وحظوظ هذا البرنامج في النجاح ضعيفة في بريطانيا. فاقتصادها مندمج في الأسواق الأوروبية والعالمية. وقد يحسب كوربن أن «العودة عن عولمة» الاقتصاد ضرورة لا غنى عنها. وحري بالاتحاد الأوروبي ومنظمة التجارة العالمية التنديد بهذا المشروع. وناخبو اليسار مدعوون إلى احتساب إخفاق «سيريزا» في إرساء برنامجها والتفكير في تجربة الحزب هذا في الحكم. ولا شك في أن الدعوة إلى التغيير في القواعد والنظم الأوروبية والدولية إيجابية، وهي من أبرز موضوعات نضال اليسار اليوم. ولكن الترويج لوهم عودة سريعة إلى شكل من أشكال السيادة الاقتصادية يفتقر إلى النزاهة. وحدود استراتيجية جيريمي كوربن انتخابية. ويرى كثر من أعضاء حزب «العمال» والمتعاطفون معه أن نجاح الحزب «الإسكتلندي الوطني»- وهو إلى اليسار أكثر من «العمال»- هو مرآة رغبة المقترعين في سياسات أكثر راديكالية. ولكن الأرقام تدحض هذا الحسبان. فبحسب دراسة صادرة أخيراً، يرى 65 في المئة من البريطانيين أن «الإسكتلندي الوطني» سيقبل على الدين إقبالاً يفوق قدرة البلاد على السداد. ويستسيغ 74 في المئة من الناخبين «خطط معقولة لبلوغ تغييرات ملموسة»، في وقت يرغب 15 في المئة فحسب في «رؤية كبرى إلى تغييرات راديكالية». وفي مثل هذه الحال، حري بكوربن مصارحة الناس والقول إن حزب «العمال» يسعى إلى أفكار وليس إلى جبه تحديات ومسؤوليات السلطة. وثمة أسباب كثيرة تحمل على استنتاج أن جيريمي كوربن لن يكون رئيس وزراء بريطانيا المقبل. وإذا فاز بهذا المنصب، جراء اندلاع أزمة مالية حديدة، كانت الصعوبات التي سبق لألكسيس تسيبراس (رئيس الوزراء اليوناني) الاصطدام بها في سعيه إلى التزام برنامجه، في انتظاره. وظاهرة كوربن هي مرآة عطش إلى التزام قيم اليسار التزاماً لا لبس فيه ورغبة في تجديد الجسم السياسي.