في يومٍ عائلي يجمع شملنا تتجلّى فيه محبة الأبوة والبنوّة، مع توهج الطفولة من تلقائية البراءة في الحفدة والحفيدات، كانت حبيبتي سامية تشغل حضن أبيها نائمة في هدوء السكينة والأمان، وكنت أتملّى بكل ما يشيعه سلام الطفولة في ذلك الوجه السادر في إغفاءةٍ يهدهدها لحن أغنيتها المفضّلة. في تلك الأجواء الحميمية بدأت في تداعيها الذكريات فرأيتُني قبل سنين أهدهد من أصبح اليوم أباً أو أصبحت أمّاً، بعدما كنت هناك سابحاً به أو بها في الخيال، فأحمد الله على نعمة وجودهم حولي مع ابنائهم حقيقة أعيشها في هذه الأيام. ومن حيث أدري دون أن أقوى على تأجيل حزن ضمير الإنسان في نفسي على ذلك الطفل وعائلته التي تشرّدت، هرباً من القتل في سوريا المنكوبة بطوفان الحقد والكراهية بين من يقتلون أهلها ويتقاتلون عليها فيما بينهم، لتدفع ما وفّرته من المال ثمناً لأجلٍ محتوم بعد ما وقعت فريسة في براثن تجّار البشر في بحثها عن الأمان لها من أجل فلذات أكبادها، فتركب ذلك البحر الغادر ليتلقفها الموج من قاربٍ حملها قرباناً لآلهة الشر الساكنة في قلوب من منّوها بسلامة الوصول إلى جنّة الرحمة في أوروبا، بعيداً عن لهيب نار الوطن وانفلاتاً من ذلّ استجداء من أشعلوها. توجّهتُ بكل ما فيّ من حبٍّ للطفولة، حيث تناهى إلى سمعي تشبيه ذلك الطفل بواحد من الأحفاد، توجهتُ إلى صورة ذلك الطفل أقرأ فيها ذلك الشبه في توسّده رمال الشاطىء بعد أن قضت منه قساوة البحر حاجة الموت، فانصهر قلبي في الكمد الشديد لأقول يابني لا يهمني من تكون، ولا دينك أو مذهبك، ولن يكون حزني أخف وطأة كونك لست عربياً، يكفي يا بنيّ أنك جعلتني أخجل من وجودي في هذا العالم لأراك بريئاً من كل ذنوب الدنيا يغتال طفولتك جشعٌ حيوانيّ في قلوب بشرية، يكفي أنّك يا بنيّ جعلتني أرى في صدرابيك قلبي وأراك واحداً ممن حولي أوقف البحر منه كل أحلامي ثم لفظه في وجه العالم، جثّة يحتضنها حنان الأرض بعد أن قست عليها القلوب المتحجرة، يكفي أن يستيقظ بموتك ما تبقّى على هذه الأرض من الضمير العالمي، يكفي أن تكون أيقونة حاضرة في أرواحنا تذكّرنا بحيوانية البشر في هذا الزمان الرديء، يكفي أن تكون يا بنيّ عنواناً للبراءة من كل جرائم القتل باسم الدين والوطنية في ديارنا العربية، يكفي أنك باسم الطفولة أعلنت ثورة الموت على الحياة التي لم تعد تحمل أيّ معنىً من معانيها يشجعّنا على التمسك بها. وإذ أتقمص روح أبيك ولا أدري إن كنت قد بلغت حدّ ما بلغه من حزن الفقد، أتساءل يا ترى، ماذا كان حلمه الذي لن يتحقق له فيك؟، وكيف سيستقبل ما تبّقى له من العمر دون أحلام تكون أمامه آمالاً يسعى إلى تحقيقها؟، فأقول كما مزّق روحى ذلك المشهد الذي كنت فيه ملقىً على ذلك الساحل، سوف تبقى روح أبيك ممزقة بعد أن غدر به البحر فأبقاه حياً واغتال كل أحلامه، حيث لم يُبقِ له من عائلته إلا الذكريات الموجعة. عدتُ إلى حبيبتي سامية التي لم تكن قد استيقظت من تلك الإغفاءة، ليعيدني صوت أغنية هدهدتها إلى عالمها الطفولي، فأقول يا صغيرتي: إهنأي براحة البال فما زلت بعيدة عن هموم الدنيا وأحزانها. عندها تذكرت الوالدة يرحمها الله فحضرت من مخزون الذكريات، تهدهد في حضنها الحاني طفلة أو طفلاً من أطفالي، وهي تردد فيما تردد في هدهداتها خبري ابراحات قلبي من يوم ثوبي شبر.