تعود علاقتي بمعالي الراحل الفقيد الدكتور محمد بن أحمد الرشيد -رحمه الله رحمة الأبرار- إلى صيف 1398هـ حيث التقيته لأول مرة في مدينة الطائف في مكتب المدير العام للتعليم بمنطقة مكة المكرمة الدكتور عبدالله بن محمد الزيد، وكان الدكتور الرشيد يشغل يومها منصب المدير العام لمكتب التربية لدول الخليج العربية، ولمّا عرف أنني عائد للتو من بعثتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية عرض عليّ العمل معه في مكتب التربية وترغيباً لي، أفاض في الشرح عن مستقبل المكتب الذي يراد له أن يكون مرجعية علمية تربوية، ودار خبرة لمؤسسات التربية في الخليج العربي، لكنني اعتذرت بلطف مرجعاً ذلك لظروفي التي لا تسمح لي بالعمل خارج منطقة مكة المكرمة، وكنت أغالب رغبة داخلية في قبول العرض ومرجع ذلك تأثري بشخصية الدكتور الرشيد التي حدثني عنها أستاذه وأستاذي البروفيسور «Hengest; H» أستاذ الإدارة التربوية في كلية التربية بجامعة «Norman of oklahoma» في الولايات المتحدة الأمريكية التي تخرج فيها الدكتور الرشيد وأنا أيضاً. والبروفيسور «Hengest» كان المشرف على البرنامج التدريبي الذي كانت تنفذه «وزارة المعارف» لبعض منسوبيها ولعدة سنوات مع الجامعة «Norman O» التي يعمل بها البروفيسور «Hengest» وهو خبير بالشأن التربوي في بلادنا. • لقد توطدت علاقتي الفكرية منذ لقائي الأول مع الدكتور الرشيد فكنت من المتابعين لبرامج ونشاطات مكتب التربية، وأتابع بوجه خاص مجلة المكتب التي كان يكتب افتتاحيتها الدكتور الرشيد الافتتاحية الأبرز في مواضيع المجلة. لقد شكلت الأفكار التي كان ينشرها تحدياً له عندما تحول من منظر إلى صانع قرار في وزارة التربية والتعليم إذ إن عليه أن يحوّل أحلامه ونظرياته إلى برامج تمارس فعلا في مؤسسات التربية هكذا كان التصور.. رغبت أن تكون هذه التوطئة مدخلا للحديث عن علاقات أوسع في مجال العمل، وعلى المستوى الشخصي، والتي كان يصفها الفقيد الراحل الدكتور الرشيد بالصّحبة وهي مرتبة أخصُ من الصداقة كان فيها نعم الأخ والصّاحب والمسؤول. الرشيد والوزارة.. عندما جاء الدكتور محمد بن أحمد الرشيد لوزارة المعارف كان المشهد في نظر الكثيرين من المراقبين أن الوزير الجديد تسلم حقيبة وزارة مسترخية، العمل فيها نمطي، تدار دفتها وفق الأنظمة حذو القذة بالقذة كل ما فيها يكرر نفسه، العام الدراسي نسخة مكررة للعام الذي قبله، اللقاءات قليلة، العاملون في المناطق والمدارس يشعرون بأنهم طبقة وظيفية دون طبقة من يسيّرون الأعمال في ديوان الوزارة، كان الحس الطاغي بين منسوبي هذا الجهاز الضخم أنه لزاماً عليك إن كنت أحد موظفيه أن تلزم حدودك الوظيفية، وأن تشعر من كان على رأس الهرم بمكانته الوظيفية وألا تنظر إليه كزميل تشترك معه في المسؤولية، بل عليك أن تستقبل وتنفذ.. نادراً ما يؤخذ رأيك.. أو تُدعى للاستماع. لطف وود • يندر أن ترى أيَّا من مديري التعليم في ردهات الوزارة إلا إذا طلب للتحقيق معه فضلا عن أن تلتقيه في مكتب الوزير، المراجعون من العاملين لجهاز الوزارة يعدون على أصابع اليد الواحدة رغم أنهم يمثلون الأكثر من منسوبي الخدمة المدنية. عندما تزور الوزير في مكتبه -وهذا نادراً ما يحصل- تجده في غاية اللطف والود، الوزير مدرسة وعليك أن تتعلم منه، خاصة إذا كنت في مقتبل حياتك الوظيفية، والتسلسل الوظيفي يُعدُّ مقدساً في الوزارة واتباعه واجب.. فالوكيل مرجع لكل منسوبي الوزارة وتخطيه إلى الوزير مباشرة أمر غير مقبول، هكذا تربى العاملون في الوزارة على هذه القيم. ?كانت بيئة العمل تفتقر للتواصل مع صانع القرار في الجهاز المركزي وهو ما أحبط بعض المشاريع التي ماتت في مهدها مثل برنامج الثانويات الشاملة، التعليم المطور.. وربما كان المتنفس الوحيد داخل اجتماعات الأسر الوطنية التي كان يلتقي فيها بعض المختصين من الوزراة ومن خارجها لمناقشة تطوير المناهج، وأساليب التعليم، وتدريب المعلمين. تكوينه المهني • بفعل هذه الإرهاصات، وبفعل التكوين المهني للوزير الجديد وجدناه يحمل الهرم مقلوباً عند دخوله الوزارة، مفتتحاً مرحلة جديدة، وفق فلسفة تتجه بثقلها إلى الميدان، تسيّل الدماء في عروقه، تشركه في صناعة القرار.. تلهب حماسته، وتستدعي مهنيته وتحفز الإبداع والابتكار عنده، اتضح أن الوزير يحب المبادرات ويشجعها، يقف ضد تهميش الأدوار، يقف بجانب المبدعين، يأخذ بأيدي الخاملين والمتخاذلين، لا يقصي أحداً، يعزز الجوانب الإيجابية لدى العاملين رفع شعار «وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة» وظل يدفع بهذا الشعار لتأسيس مناهج للتربية على فلسفته ولبناء شراكة حقيقية بين مؤسسات التربية والمجتمع. روح جديدة • إذاً، تبين للعاملين من خلال هذه الروح الجديدة التي بثها الوزير في هذا الجسم الضخم أن سياسة الوزارة محكومة بالتكوين الفكري والفلسفي، وحتى الاجتماعي لمن يجلس على كرسي القيادة فيها، وليس وفق نظام مؤسسي دقيق خاصة في مجال آليات العمل، وأساليب تطبيقاته، هكذا كانت تدار الأمور في الماضي، والسؤال هل ستبقى سياسة المستقبل هي سياسة الماضي، سياسة الرجل الواحد، وفلسفة الرجل الواحد، أم أن الوزارة قادمة على عمل مؤسساتي يشترك الجميع في صنع القرار فيه، هل فعلاً سوف يحول الوزير القادم من منصة التنظير الوزارة إلى خلية نحل لا تهدأ؟! في مكة المكرمة.. بعد صدور المرسوم الملكي بتعيينه، بادر الوزير الجديد بزيارة مكة المكرمة مفتتحاً بذلك سلسلة من محطات الترحال والتنقل بدأت يوم تعيينه في 6/ 3/ 1416هـ، وانتهت في الكويت مساء 28/ 12/ 1425 ?كانت بداية الألف ميل من مكة المكرمة، ومكتبي كان أول مكتب مدير تعليم يستقبل الوزير، ومدرسة الملك عبدالعزيز الثانوية أقدم وأعرق المدارس الثانوية في المملكة التي كانت تسمى في بداية النهضة التعليمية مدرسة تحضير البعثات كانت أول مدرسة يزورها، أعلن الوزير في لقائه بمجموعة من طلاب المدرسة أن النشاط المدرسي مفردة من مفردات المنهج بمفهومه الحديث وطالب برفع نسبة مشاركة الطلاب فيه إلى 100% وهذه واحدة من الإشكالات بين التنظير الذي لا يزال ممسكاً بتلابيب الوزير، وبين الواقع المحكوم بالمكان والإمكانات والظروف الصحية للطلاب والظروف البيئية والمناخية التي يستحيل معها إشراك جميع الطلاب في برامج النشاط التربوي، لكنه منهج التغيير الذي لا بد أن يتغلب على المعوقات والصعوبات. مستوى الأداء • سعى الدكتور الرشيد ابتداء إلى قياس مستوى الأداء في وزارته، وبحث أولويات التحديث والتطوير وتحسين المخرجات، وتخليص الوزارة من الروتين والقوالب الإدارية النمطية، ففي سبيل ذلك عمد إلى تنشيط اللقاء السنوي لمديري التعليم، طوره فيما بعد إلى مسماه الجديد «اللقاء السنوي للقيادات التربوية» يحضره بالإضافة لمديري التعليم، عمداء كليات المعلمين ووكلاء الوزارة ومديرو العموم وبعض الشخصيات البارزة في مجال التربية والتعليم، وعقد اللقاء الأول في مدينة تبوك عام 1416هـ وهو اللقاء الذي كانت النفوس فيه مشرئبة للجديد، زاده حيوية وأهمية رعاية الأمير فهد بن سلطان بن عبدالعزيز أمير منطقة تبوك له.. فكان لقاء القرارات كما سمي، وأعتبر ما صدر عنه بداية الانطلاقة للسياسة الجديدة للوزارة ومن التجديد في تطبيقات اللقاء الأول أنه عقد على هامشه ندوة تربوية اشترك فيها مدير تعليم، مشرف تربوي، معلم، طالب.. وكانت ندوة مفتوحة تجلت فيها روح المنظومة التربوية وسميت الندوة فيما «ندوة المشاركة في المسؤولية» جلس فيها مدير التعليم والمشرف التربوي والمعلم والطالب جنباً إلى جنب. اللافت في اجتماع تبوك أن الوزير كان ينصت لكل متحدث بتمعن ويستمع باهتمام لكل مداخلة للتعرف على مستوى الأفكار لدى رجال وزارته، لقاء تبوك كان مفصلياً تأكد فيه لقيادات الوزارة أنها أمام فكر جديد وأن رياح التغيير ستهب على وزارتهم لا محالة، شمر الوزير عن ساعديه من اليوم الأول فنزل إلى الحقل حيث العمل التربوي الفعلي، نزل إلى المدرسة، طاف المملكة متفقداً، داعماً، راعياً لنشاطات المدارس، يستمع للطلاب والمعلمين، يناقشهم، يحاورهم، يحقق مطالبهم بصورة مباشرة دون استسلام للروتين، لقد قضى محمد الرشيد على دابر الروتين في وزارة التربية والتعليم وقتله من الوريد إلى الوريد. حاسة وطنية • كان الدكتور الرشيد يتمتع بحاسة وطنية متجدرة في وجدانه، يغضب من أجل أبسط الأمور التي تمس الوطن، ويفرح بنفس الحجم لكل قيمة وطنية، بل قد يتخذ قرارات من أجل الوطن لتعزيز شأنه لدى الناشئة ومن ذلك قراره إدخال مادة التربية الوطنية في الخطة المدرسية التي دار حولها الكثير من الجدل، لكن ما يشفع للدكتور الرشيد هو حبه لوطنه وهيامه بكل ذرة من ترابه. ?في واحدة من زياراته لمكة المكرمة التقاه في الحرم المكي صديق له من دولة الإمارات العربية المتحدة أبدى له إعجابه بجمال وضخامة وفخامة مشاريع الحرمين، لكن الضيف أبدى دهشة من ضعف النشر والإعلام والتوضيح لهذه المنجزات الفريدة التي تتم من أجل المسلمين، هذه الرغبة حركت شجون الدكتور الرشيد المحب لوطنه فوجدته يطلب مني الإعداد لكتاب عن مشاريع الحرمين الشريفين تموله الوزارة، ويوزع على طلاب التعليم العام، فعملت وزميلي الأستاذ إبراهيم كيفي مدير مدرسة الإمام البخاري الابتدائية على إصدار كتاب تعريفي للناشئة بعنوان «الحرمان الشريفان» طبعت منه الوزارة مئات الآلاف من النسخ ووزعته على مدارس وطلاب التعليم وتحققت بذلك رغبة الدكتور الرشيد وصديقه الناصح الأمين. لقاء المتقاعدين • تعودنا في منطقة مكة المكرمة في منتصف شهر رمضان من كل عام إقامة حفل مهيب نكرم فيه المتقاعدين من أسرة التعليم في ذلك العام، وكان ضيف الشرف في سنواتها الأولى الأمير ماجد بن عبدالعزيز أمير منطقة مكة المكرمة -يرحمه الله- كان الأمير يضفي على الاحتفال الكثير من أريحيته المعهودة وبشاشته غير المصطنعة ويثني على جهود المتقاعدين لا سيما أنه يعرف بعضاً منهم، وعندما تولى الدكتور الرشيد الوزارة وجد أن اللقاء السنوي للمتقاعدين بمكة المكرمة مناسبة منتظرة يضيف لها المكان والزمان بهجة وألقاً وسعادة فأطلق عليها «حولية تعليم مكة المكرمة» وأصبح هو ضيف الشرف السنوي فيها، يلقي فيها كلمة ضافية تتضمن الكثير من الرؤى والتطلعات ويعرض فيها جديد الوزارة وكان يدعى لهذه الحولية ويشهدها شخصيات من المجتمع المكي وبعض الشخصيات الإسلامية التي يصادف تواجدها في يوم الحولية في مكة المكرمة. • كان الدكتور محمد الرشيد يعرف مدى حفاوة واهتمام القيادة بالتعليم فرغب أن يسمع قادة العمل التربوي ما يسمعه يومياً من قيادة البلاد ويسمعهم هموم التعليم وشجونه من أهله والقائمين عليه فرتب للقاء سنوي تلتقي فيه القيادة بأسرة التربية والتعليم، لقاء يحضره قادة العمل التربوي يعد غاية في الأهمية، وهو حدث تاريخي سرّ العاملون في الحقل التربوي وقد أسهم الحوار المفتوح بين القيادة وأسرة التعليم -الذي بدأ 18/1/1418هـ- في دعم معنويات العاملين في قطاعات التعليم وساهم في زيادة الدعم المالي لبرامج ومشاريع الوزارة وكانت تعقد هذه اللقاءت بعد نهاية العام الدراسي في مدينة جدة.. وتبدأ بـ: - اللقاء بخادم الحرمين الشريفين. - اللقاء بسمو ولي العهد. - اللقاء بسمو النائب الثاني. - اللقاء بسمو وزير الداخلية. توزع الأدوار بين فريق أسرة التعليم أثناء الحديث أمام القيادة، يتحدث الجميع بحرية كاملة، يبثون رؤاهم، طموحاتهم، معاناتهم وآمالهم ويطلبون الدعم والمساندة. المعارضون والمنتقدون لم يكن الطريق مفروشاً بالورود أمام الدكتور الرشيد في وزارة المعارف التي تحولت إلى مسماها الجديد في عهده إلى «وزارة التربية والتعليم» فقد كان لبعض سياسته معارضون ومنتقدون فظل يتحمل ويقابل ذلك بالظن الحسن ويعرض ما يصله من معارضات على اللقاء الأسبوعي الذي يجتمع فيه عادة قياديو الوزارة تطبيقاً للمنهج الذي التزمه، وهو عدم التفرد بالقرار طيلة ولايته على وزارة التربية. هذه مواقف تأتي من الذاكرة بشكل متسارع أمام الحدث الجلل والفقد الفادح للرائد التربوي الفذ، القامة الشامخة محمد بن أحمد الرشيد. ذكريات العمل مع العزيز الدكتور الرشيد تبقى كشلال متدفق من العطاءت والإنجازات والمواقف الوطنية، التي تشرف تاريخه وتزيد من احترامه وتقديره وتوقيره. • أحب الفقيد مكة المكرمة كثيراً، تعلق قلبه بها، بأهلها، كون صداقات وعلاقات متينة معهم، تعوّد قضاء الأيام الأولى من شهر رمضان من كل عام في مكة المكرمة، لازمته فيها منذ عام 1416هـ، الملفت أنك تلمس وتحس حب الناس له يزداد في كل طريق يسلكه، تشعر أن لشخصيته وهجاً لا تخطئه العين، كان يلتقيه في الحرم المكي بعض من اختلف معه في الرأي يطلب منه الصفح والعفو والمسامحة، شاهدت ذلك غير مرة، فلم يكن لواماً ولا معاتباً يقابل ذلك الاعتذار بكل صفاء وأريحية مردداً :عفا الله عما سلف» ونحن نقول سامحك الله ورحمك وعفا الله عما سلف يا أبا أحمد.