لو حملت لوحة وكتبت عليها: أنا جائع. ستكون هذه اللوحة رسالة للجميع بدلا من أن أدور على كل فرد لأقول له إني جائع، وهي اختصار للشكوى من حالتي وإبلاغ الكل بما أعاني. والشابان اللذان رفعا لوحة كتب عليها حضن مجاني (Free hug) وانطلقت الدعوة بين الشباب لاحتضان بعضهم البعض وتلقف الفكرة شباب بمدينة جدة مستبدلين الشعار بشعار آخر (ابتسم إنها سنة). فإن الحالتين تمثلان افتقارا لحاجة إنسانية ماسة غابت أو أوشكت على الغياب لعدة أسباب قد يكون أهمها تفشي خطاب النبذ بين أطياف وفئات المجتمع فأدت إلى خلق جفاف عاطفي أصاب الجميع بعدم التوازن النفسي... ولأن الجانب العاطفي مثله مثل بقية الجوانب الفطرية الإنسانية إن شح أو ندر يتحول إلى مطلب أساس لاستكمال الحياة. ويبدو أن الشباب استشعروا ما يعانونه من إهمال أسري وإهمال اجتماعي وافتقارهم للعاطفة والحاجة لملء هذا الفراغ فخاضوا تجربة إشهار هذا الاحتياج الذي تمت مواجهته بصورة سلبية معاكسة تؤكد أننا فعلا غدونا مجتمعا نافرا إذ تجسدت أهم حجة لرفض (حضن بالمجان) بأنه فعل غريب على مجتمعنا! وهي الحجة التي أريد بها استقباح فعل (الحضن المجاني) وقد يكون قائلها لم يحتضن أولاده منذ أن ولدوا ويصبح قوله إنها فعل غريب قولا صادقا يؤكد جفاف القلوب من مياه الحب التي يبحث عنها الكبير والصغير الرجل والمرأة. وبلاغة التعبير عن الاحتياجات الإنسانية تأتي كرسائل خاطفة بحاجة لمن يتمعنها ويبحث عن مضمون الرسالة وليس رميها في سلة المهملات بحجة أنها رسالة لا تخصني أو تمزيقها لكونها رسالة غريبة. وفي هذا السياق أتذكر قصة قصيرة كتبها القاص الروسي الفذ تشيخوف، كتب عن شخص كان يعمل في إسطبل الخيول ويعاني من الوحدة والإهمال وعدم الاكتراث به من قبل أي انسان، ولم يكن يجد أحدا لكي يخبره بمعاناته وضيقه بما يعاني من وحدة، وعندما لم يجد أحدا يستمع له ويخفف من أحزانه، أمسك بخيله الأثير وأخذ يحكي للخيل معاناته وأشجانه وعذاباته وعندما انتهى من قول كل ما يحزنه ويتعبه ألقى نظرة للحصان الذي كان يستمع له فوجده قد مات إذ لم يستطع تحمل كل تلك المعاناة التي سمعها. ونهاية قصة تشيخوف كانت رسالة مؤلمة لما حدث للإنسان جراء التغيرات الحادة سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية وقطعت الروابط الإنسانية في ما بين الناس حتى لم يعد المرء قادرا على الشكوى ومع تراكم الأحزان وتخمرها وفساد نفسية حاملها كان الحديث بها لحصان (إشارة لقوة تحمله) لم يقدر على تحمل كل تلك الأحمال فخر صريعا. نحن فعلا بحاجة إلى حضن دافئ وابتسامة مشرقة بدلا من مجابهة بعضنا بعضا بالعبوس وترديد (ما عاد فيني) و(صدري ضايق ما يحتمل).