الخادمة القروية التي تعنى بتنظيف بيوت الأثرياء في المدن، واقع عرفه أهل القرى اللبنانية النائية قبل الحرب الأهلية دون أن يدرك الكثيرون خطورته، ولكنه ربما ترك في النفوس أثراً أسهم إما في الانكسار وإما في النقمة. هل كان له دور في شحن الحرب الأهلية فيما هو أبعد من السياسي الظاهر؟ الخادمات كن ينزلن إلى المدن - ينزلن وفق التعبير الدارج- لأن ذهابهن كان من الجبل باتجاه الساحل. طبعا لم يكن هذا الجبل هو المتن أو الشوف وإنما بالدرجة الأولى قرى عكار وبالدرجة الثانية قرى الشمال المارونية النائية. هذه القرى زودت الحرب بأكبر عدد من مقاتليها. الكل يحكي عن أحزمة البؤس البيروتية، لكن أحداً لا يحكي عن أحزمة البؤس القروية والتي بدأت قصتها من بداية الإقطاع العثماني. هل كان فلاحو جبران خليل جبران إلا بعض هؤلاء؟ مثل جبران هاجر مئات الآلاف من هؤلاء قبل الحرب الأهلية وبعدها، وعندما عادوا هذا العام وجدوا الوضع أسوأ. البلد مطمور بالقمامة. الأغرب أن الحكومة رأت أن على عكار، من جديد، أن تنظف بيوت بيروت وشوارعها، وعلى إقطاعيي مجلس الوزراء أن يشرعنوا ذلك، وعلى الإقطاعيين الجدد من ساسة عكار نفسها أن يبصموا على هذه الشرعنة. يريدون إقناع الناس بالفرصة والهبة - الرشوة، أفلا يسألهم الناس لماذا لم يطالبوا، نواباً وسياسيين بالتنمية كحق؟ هل يعي الناس أن عليهم انتخاب نوابهم بناء على مقاييس أخرى غير العائلة والمذهب وزيارة المريض والوقفة إلى جانب الأهل في العزاء؟ إن لم نقل الرشوة الرخيصة. اليوم ترشى المحافظة بالجملة بمئة مليون دولار. رشوة لا سند قانونياً لها إلا بنداً تعني حسبته أن هذه الصفقة تعني من سبع إلى عشر سنوات. أي عشرة ملايين سنوياً، تعبر في جيوب زعماء الفساد فلا يصل منها إلا قطرات للمحافظة. ثمناً للحفاظ على الستاتوكو. أهل أحزمة البؤس الجنوبية وضحايا الاحتلال والحروب تجمعوا تحت جناح بنت جبيل، في اتحاد بلديات القلعة. اثنتا عشرة بلدية رفضت أسعار الشركات ووضعت سعرها للطن. لا يعني ذلك أن الجنوب ناج من الفساد، من زبالته إلى إعماره إلى استثماراته. ولكن أحداً لم يعد يتجرأ على رمي زبالته عليه. لم يتقاسموا، طارت الصفقة. الفرزلي. ولكن هل يعني ذلك أنهم سيرمون سلاحهم؟ هل سيطلب من الشركات ذاتها العودة بأسعار أقل فضائحية؟ أم سيؤتى بشركات أكثر ارتباطاً بأمراء الحرب والزبالة؟ أم ستتمكن سلطة سوكلين بعد أن طار حلم عمالها الأربعة آلاف بالمنافسة مع شركات أخرى؟ لماذا لم تحدد التقنيات وأماكن المعالجة ودور السلطات المحلية؟ لماذا لا تعتمد الحلول التي تقلص المشكلة إلى أقل من 20% من حجمها الحالي، بالفرز والتخمير وحجب النفايات الخطرة؟ أم أن التقليص سيقلص أرباح الفساد؟ يقول المسؤولون إنهم يستشيرون الخبير الأجنبي المقيم رامبول. رامبول للقمامة أيضاً؟!! سأل الناس: لماذا لا يترك الأمر للبلديات الأخرى، كما في كل دول العالم؟ الناس أفرزوا حراكاً، يبدأه دائماً المخلصون الثائرون، والأمل ألا يصادره المندسون ويحولوا مجراه إلى فساد جديد أو إلى تنصيب قيصر جديد. تحت ضغط الشارع قالت الحكومة إنها ستدرس أمر الإحالة للبلديات. لم يصدق الناس. طلب السنيورة فتح مطمر أطلق عليه اسم رولس رويس...لا يعرفون إلا هذا النوع من التسميات. يبلبلون المواطن بالأرقام والمواصفات والمقاييس، كي لا يفهم. ويتحدثون عن صفحة تاريخية عظيمة الأهمية. يا الله كيف صغرت الألفاظ بحجم لافظيها وحجم المرحلة القذرة!! صفحة تاريخية! تحررت فلسطين! لا بل استلهمنا جدارها العازل لحماية سلطة لم تملك قدرة حماية الجدار. الحرب على الإرهاب تبدأ بتجفيف بيئته الحاضنة. جففوها بدءاً من تجفيف الفساد والفقر والتغول والجهل والتخلف. وإلا فسيرمي المساكين أنفسهم للنار التي تجذبهم بوهم الكسب والانتقام فتحرقهم وتحرقنا وتحرقكم في النهاية. hayathanna@hotmail.com