انشغل الوعي الإنساني منذ بواكير المعرفة بمفهوم الزمن بوصفه واحد من المفاهيم الغامضة والمخاتلة حتى اليوم، فلم ينهمك أرسطو وأفلاطون في تأمل كنهه وحسب، بل ظل مثار تساؤل توقف عنده فلاسفة العرب ومفكريه، فكان موضوع بحث الكثير منهم، أمثال أبو بكر الرازي، وأبو البركات البغدادي، وفخر الدين الرازي وغيرهم. ولم يتوقف البحث والتساؤل عند تلك المرحلة وحسب، بل ظل فضاءً مشرعاً أمام عقول إبداعية عبقرية، فانشغل به آينشتاين، وقضى سنوات طوالاً من عمره يكتب سيرة رياضية لهذا الشيء الهائم العصي على المعرفة، وكتب ستيفن هوكنغ مؤلفه الفذ تاريخ موجز للزمن الذي جعله يتربع على رأس الذين بحثوا في هذا المفهوم، إذ قدم تصورات عقلية قابلة للإدراك حوله. رغم ذلك بقي الزمن حالة موغلة في الغموض، وفضاء مشرعاً على الهدر الفلسفي والكد الذهني، فإنه كما شغل المفكرين والفلاسفة والعلماء، شغل الشعراء وأنهك لغتهم للحد الذي بات يتوالد في قصائدهم ويتمظهر بأشكال كثيرة، تتشابه في طرحها مع ما قدمه الفلاسفة منذ مئات السنين حتى اليوم. وكم يبدو الشعر جميلاً أمام المفاهيم المخاتلة التأويلة، إذ يجمع الشعراء الخيال الخصب، الذي يصبح الزمن فيه سيرة قصيرة لنبتة برية، أو لحظة سقط فيها جندي برصاصة، أو نهراً يهدر يتفلت منه رذاذ الماء ويعود إلى الغرق والجريان. إنه الشعر بكل حياته خارجاً عن تأملات الفلسفة، ومعادلات الرياضيات، وصلابة الفيزياء، فيه يتحول الزمن إلى حركة دائرية لساقية الماء، كما يقول الشاعر الإسباني لوركا: أنا أقف أمام عينيك مكبل الأيدي مكوم الفم معلقةً عنقي في ساقية الزمان أدور حولها وتدور حولي لا تأخذ منى ولا تعطيني. أو يتحول الزمان إلى حجر قذفته يد الغيب لتحطمنا، ونتناثر مثل زجاج هش، كما قال أبو العلاء المعري قبل أكثر من ألف عام: يحطِّمنا ريب الزمان كأننا زجاج ولكن لا يُعاد لنا سَبْك وما الإنسان في التطواف إلا أسيرٌ للزمان فما يفك وكأن المعري في أبياته تلك يقدم خلاصات أفلاطون حول الزمن، إذ ظل صاحب المحاورات يرى أن الزمن ليس له وجود قبل نشوء الكون، وأنه قرين الحركة والحدوث. كم يبدو الشعراء فلاسفة في كثير من الأحيان، أو هم في الحقيقة يشتركون مع الفلاسفة في بناء الخيال، إلا أنهم يكتفون بذلك، فيما يذهب الفلاسفة إلى محاولات عقلية لإثبات ذلك الخيال وتحقيق شكل حضوره على أرض الواقع، فالفكرة التي اجتاحت فلاسفة القرن العشرين حول لا نهائية الزمن، قالها إيليا أبو ماضي في قصيدته كم تشتكي حيث كتب: أو كنت جاوزت الشّباب فلا تقل شاخ الزّمان فإنّه لا يهرمأنظر فما تطلّ من الثّرى صور تكاد لحسنها تتكلّم ما أجمل الشعراء وما أعلى الفلاسفة وما أوفر الصداقة بينهم. Abu.arab89@yahoo.com