عاش ألبير قصيري 94 عاماً، منها 63 عاماً أمضاها نزيلاً في الغرفة رقم 85 في فندق لالويزيان في حي سان جيرمان في باريس، وفي عام 2008 توفي في الغرفة ذاتها، وطيلة هذه السنوات في غرفة لم يشعر قصيري بكآبة العيش الطويل في الفنادق. كانت حياته حياة كاتب أدمن العزوبية والوحدة. من الفندق إلى المقهى ومن المقهى إلى الفندق حيث الأصدقاء الوجوديون في أربعينات القرن العشرين، وحيث باريس الغواية والكتابة والأنوار، ومع ذلك لم يقبل الجنسية الفرنسية. رواياته وشعره وقصصه فرنسية، ولكن أبطاله مصريون، إن لم يكونوا من غلابى المصريين، وظلت مصر في قلبه إلى تلك اللحظة الأخيرة في الغرفة رقم 85. الكاتب الجزائري مالك حداد (1927 - 1978) ظلت الجزائر في قلبه، رغم أن كل رواياته وشعره باللغة الفرنسية التي كان يعتبرها منفاه. لم يعش مالك حداد في غرفة فندقية، بل عاش في اللغة التي يحب أن يكتب بها، وإذا أردت المقاربة بين قصيري وحداد ستتوقف عند ولعهما بالوطن الأم، مصر وطن ألبير قصيري، والجزائر وطن مالك حداد، فاللغة لا يمكن أن تكون وطناً أو أماً مهما نقلت الكاتب إلى مجد الأدب، إنما تظل هوية أدبية. وهكذا كانت هوية الكاتب التشيكي ميلان كونديرا. هو الآخر يكتب بالفرنسية، ولكن تشيكوسلوفاكيا بلاده. بلاد من حجارة وماء وأشجار، وهذه لا توجد ولن توجد في اللغة، كما هي في الطبيعة. أعود إلى الفندق، قرأت قبل أيام ملفاً جاء تحت عنوان (الفندق) في عدد يوليو/أغسطس من مجلة القافلة، ومن أجمل ما لفتني في الملف الصور الفوتوغرافية بالأبيض والأسود لفنادق تاريخية، مثل فندق إن برنت تالبوت وتأسس في العام 1307 ميلادية، ورأيت في الملف صورة فندق جورج إن، وقد كان ينزل فيه الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز. سبقت الفنادق بأشكالها التقليدية المعروفة اليوم ما تسمى قديماً الخانات، وهناك النزل الصغير، وعندما خرجت المقاومة الفلسطينية من بيروت في 1983 توجه محمود درويش إلى الجزائر وأقام في نزل، وكتب قصيدة جاء فيها نُزُلٌ على بحر زيارتنا قصيرة، وبالإضافة إلى الخان والنزل هناك البانسيون، وعادة ما يكون فندقاً صغيراً قديماً، وفي العاصمة الأردنية عمان يتردد عدد من الشعراء على فندق كناري، وهو في حقيقته بانسيون حميم يكتب فيه الشعراء قصائدهم ويعلقونها على أحد جدرانه المحاذية لغرفة الاستقبال، وممن كانوا يترددون على كناري الروائي الأردني مؤنس الرزار صاحب رواية أحياء في البحر الميت. بنى نجيب محفوظ أحداث روايته ميرامار في بانسيون، ولكنه لم يعش في فندق. أتساءل من أين ل البير قصيري كل هذه المقاومة؟. yosflooz@gmail.com