تؤكد مهرجانات بيت الدين في الذكرى الثلاثين لانطلاقتها اهتمامها الجدي والمجدي بالظواهر الفنية اللافتة. وليس عرض «بار فاروق» مساء أول من أمس سوى حلقة من سلسلة إضاءات محلية وعالمية حققتها بيت الدين على مدى عقودها الثلاثة. فما شهده جمهور القصر التاريخي يمكن اعتباره عيداً لتكريس مجموعة من الفنانين اللبنانيين أحدث عملهم الأول «هشّك بشّك» نجاحاً وصلت اصداؤه الى المنطقة العربية وعواصم الاغتراب، بل أتى كثر الى بيروت للمرة الاولى منذ سنوات لمجرد التحقق مما سمعوه عن «هشّك...» لكن من يكون هؤلاء الفنانون؟ واين كانوا قبل ان يحلّوا على مسرح – غنائي كان متعثراً فانطلق وكان متكدراً فابتهج؟ بصرف النظر عن اسمائهم نتحرّى لديهم دينامية لا يعقل ان تكون وليدة مصادفة أو نتيجة فراغ. وقعهم على الجمهور شديد الإلفة، حميم ، تتدفق مشاهده من تلابيب الذاكرة الهاجعة، وتتوالى ألحانه مثل كما من نبع غلب الظن انه شحّ وجف وملأ الدغل مصبه. كلا! فالذاكرة الجمعية تتمهل ولا تتحلل، تغوص حد النسيان وفي لحظة مبهرة تسطع من جديد. وذلك بالفعل ما حصل ليلة صعد الجمهور الى المسرح في نهاية عرض أراده بلا نهاية. في ساعتين من لا شيء سوى الموسيقى والرقص والغناء وبعض التمتمات المضحكة ردّ الروح الينا زياد الأحمدية ورفاقه. بين العفوية المرحة والاحتراف المتين، أرجحونا على حبل اللعبة الذكية، والهارمونية المتماسكة، والمعرفة المرهفة بأصول حبكة الفن الاستعراضي، فكأن كل لحن وكل حركة وكل صوت وتر من أوتار عود تعزفه يد واحدة. انه ذلك الانضباط العالي الذي يمنع الترهل والضعضعة، وخلفه مراس مذهل في العمل الجماعي، حيث الكل لواحد والواحد للكل، على غرار فرسان المائدة المستديرة، وبعكس فرديتنا القومية الشهيرة! استعادت الفرقة ذهب الاغنية الشعبية والعصر المفرقع لكباريهات بيروت. المغنون رقصوا، والعازفون غنوا، و «ستات فاروق» قلن بالفم الملآن:» نحنا ستات فاروق / نحنا نحنا نحنا/ ما حدا بياخد مطارحنا... وجَزَمن ان لا شيء يحدث في البلد من دون ان يعبر في أعطافهن! لا الوزير يتوزر ولا المدير يتمودر ولا أحد يهوى ويسهر إلا بأمرهن! بديهي ان تثير بعض الاغاني الماضية حماسة مستفيضة لدى فريق من الجمهور دون آخر، فجيل ما بعد الحرب لن يتذكر فهد بلان و«رائعته» الطيارة «لاركب حدك يالموتور» لكن الاداء الحماسي المتدفق بلا هوادة من خشبة المسرح ردم الهوة بين الاجيال في سرعة البرق، وإذا بذلك المطرب الجردي يلوح للبنين والبنات من عصر كاد ان يغمره النسيان. أما قلة ذوق الهواء تجاه فستان صباح فأغنية لم يعد يشفع بها سوى ادائها العذب ، إذ ما عادت فساتين اليوم تخشى رياح الامس وقد تجاوزت احتمالات الفضيحة بنجاح باهر! عاش جمهور بيت الدين، مساء الاربعاء المنصرم، مناخاً طقسياً عارماً يشبه احتفالات الفودو حيث تقام مراسم تحضير الارواح في مزيج من الخشوع والهسترة. جرى نبش ذاكرته وذرها في هواء مشعشع ما أغمده في نشوة المرح ومجانية اللهو حتى أدرك لحظة التجلي (كاثارسيس) متوحداً مع فنانين أعادوا إليه لحمة اصالة يفتقدها كلما سمع اغاني الضججيج والزعيق التي تكاد ان تصيبه بالصمم. نعم، جرف سيل البهجة زبائن «بار فاروق» فاحتلوه طوال ساعتين بعد انتهاء العرض، رقصاً وغناء.