نشأت الجمهوريات العربية الراهنة بفعل انقلابي مشهود على المرجعيات السلطانية السابقة عليها، وقد ترافق ذلك النشوء مع شعارات ثورية صاخبة، وكان قادتها الميامين أبعد ما يكونون عن مقتضيات الفعل المؤسسي المركب والشامل، وقد ترافق مع جمهوريات الأشهر القمرية قدر واضح من الديماغوغية السياسية، وتعمد كسر المراحل الانتقالية المرنة، والتبشير بمجتمع ألفي فاضل، والقفز على ما كان من موروثات سياسية واجتماعية حميدة، كالمثال البرلماني التعددي في مصر الملك فاروق، والمشروع الدستوري الإصلاحي في المملكة المتوكلية اليمنية على عهد الإمام أحمد حميد الدين، وصولاً إلى مشروع الدولة الاتحادية الدستورية في اليمن الجنوبي قبل رحيل الإنجليز من تلك الديار.. ويمكننا ملاحظة واستقراء ذات الحال في الجزائر وليبيا وموريتانيا والسودان والصومال والعراق وسوريا وتونس ولبنان، وكأنها جميعاً خرجت من رحم واحدة.. ليرينا التاريخ مبلغ الدهاء والمكر الساخر له. يمكن القول بكل يقين وثقة إن جمهوريات العرب الماثلة لا علاقة لها بفقه الجمهورية السياسي التاريخي، منذ أن بشر به وسطّر أول معالمه الفيلسوف اليوناني أفلاطون، وتبعاً لذلك، فنحن أمام جمهوريات نخرها الفساد، ولا تختلف، من حيث الجوهر، عن (جمهوريات الموز) في أمريكا اللاتينية، كما أننا أمام (أتوقراطيات) جمهورية لا تقف عند حد الهيمنة المركزية الفجة، بل تتوق إلى توريث الحكم، كما لو أنها مرجعيات تاريخية لحاكميات غير تاريخية، وقد رأينا هذه الحال البائسة في مصر حسني، وليبيا معمر، ويمن صالح، وسوريا الأسد، وكان يمكن لذات الحال أن تتكرر في عراق صدام، وتونس بن علي، وغيرها من جمهوريات الوراثة العربية. هنا نصل إلى استنتاجين مهمين: الأول يتعلق بالحاكميات التاريخية المشرعنة بناموس التاريخ، والمطالبة بإصلاحات هيكلية تجعلها بُنى سلطانية دستورية.. هنالك، حيث يتم الفصل الإجرائي بين الحاكمية التاريخية والإدارة القادمة من ضرورات الحاضر والمستقبل، وما يتبع ذلك من تحرير ليبرالي، يفتح الباب واسعاً للنماء الاقتصادي الأفقي، وتعايش الأنساق الاجتهادية في الفكر والثقافة والاجتماع، والتعايش المؤسس على قدسية المواطنة العصرية، بوصفها معيار الهوية والمشاركة، والسبيل الأكيد للتعايش والتواشج والانتماء. الجمهورية العربية ينبغي أن تُستعاد إلى المعاني النابعة من فقه الجمهوريات، وهذا يستلزم إصلاحاً هيكلياً سياسياً يبدأ بمؤسسة الحكم، وهي مؤسسة جمهورية في ظاهرها.. أتوقراطية مشوهة، بالمعنى الدقيق للكلمة.. ولنا هنا أن نلاحظ التراجيديا الكبرى لهذه الحقيقة في بلدان التنافي العدمي الماثلة: سوريا، العراق، ليبيا، اليمن، والحبل على الجرار، فالمقدمات الماثلة في بلدان أخرى تُوصلنا إلى ذات النتائج المرعبة. ليس أمام جمهوريات العرب درب سالك خارج الديمقراطية، ومختصر المفهوم يرتبط بالشفافية والمشاركة ودولة المواطنة العصرية، والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وغيرها من ثوابت تتصل بالولاية أولاً، ثم بالديمقراطية معنى ودلالة، وإذا ما حاولنا الإجابة عن هذا السؤال في الزمن السياسي العربي، سنجد أن الأصل يقبع في جوهر التيوقراطية الدينية والسياسية، والديكور قد يتغلف بأوراق سلوفان الديمقراطية، كما نلاحظ ذلك في بلدان التعددية السياسية العربية ظاهراً.. المتجوهرة في الحاكم الفرد غالباً، وقد وسمت هذه الحقيقة الفاقعة النظام العربي طوال العقود الماضية، وعندما تحركت الجماهير باحثة عن مشروع خلاص، وجدت نفسها في فخ كبير، فالجماهير تخطت مشاريع المعارضات العربية التي أنهكتها الدكتاتوريات، بل وحولتها ضمناً إلى نسخة أكروباتية منها، كما أن النظام القديم لم يستسلم، بل أعاد إنتاج نفسه بكيفيات تراجيدية في طول وعرض بلدان الربيع العربي، وقد كان البديل الوحيد المؤهل لتعبئة الفراغ السياسي الناجم عن سقوط الأنظمة، متمثلاً في تيار الإسلام السياسي المنبثق من تضاعيف الأركيولوجيا السياسية التاريخية العربية، والسلوك الثقافي الشمولي، ما أسهم في إسقاط الفرصة اللاتاريخية التي لاحت في مصر. ومقطع القول، إننا لا نستطيع أن نتحدث عن الديمقراطية بمفهومها العصري في العالم العربي، مع ملاحظة بعض انبثاقات إيجابية في المغرب، وحالة من الرغبة القلقة المتوترة في تونس، ومخاضات عسيرة في جل الجمهوريات العربية المعُلنة.