ليس شرطاً أن يكون الإرهاب قصراً على من يحمل السلاح، ويسفك الدماء، ظلماً، وعدوانا، بأسلوب همجي، وبدون سلطة شرعية. ذلك أن مثل هذا الصنيع إرهاب بالإجماع. ولا قيمة لشذوذ الرأي، عند من يستبطنون الإرهاب الفكري. والقواعد تتأصل حين يُحْكم على مناقضها بالشذوذ. وإذاً فالذين يريقون الأحبار، ويَهُزُّون المنابر، ويصدحون في القنوات، ويحبرون في مواقع التواصل، في سبيل مواجهة القطعيات: الدلالية، والثبوتية، وما علم من الدين بالضرورة. ويدنسون المقدس، ويؤنسنون الوحي، ويتعمدون تفكيك الوحدة الفكرية للأمة، ويُقْدِمون على اتهام المصلحين، والمجددين، والمذاهب المعتبرة، بأنها تهيئ الأجواء للإرهاب، وتمده بالعدة والعتاد، دون دليل برهاني. هؤلاء الموجفون بأقلامهم، وألسنتهم، وموقعهم، لا يختلفون عَمَّن تجمع الأمة على أنهم إرهابيون. فتصفية السمعة لا تقل خطراً عن تصفية الأجساد. والله وصف [المنافقين] بالكفر، بعد الإيمان، لمجرد أنهم سبوا الصحابة، وجاؤوا بالإفك. والمتابعون، والراصدون لميادين القتال، يروعهم مايمارسه الإرهابيون الحقيقيون من حز للرؤوس، وإخلال بالأمن، وتفريق للكلمة، وإفساد في الأرض، بعد إصلاحها، وتشويه متعمد للإسلام، الذي يَدَّعون الانتساب إليه. وهو منهم براء. ومن الخطأ الفاحش أن تنسب بعض تلك الظواهر الإجرامية إلى مذهب معتبر، أو مصلِح مُتَّبِع، غير مبتدع، إلا ببرهان قاطع، أوإجماع مستفيض. والأغرب من ذلك كله، أن هذا الصنف المجازف بالاتهام، يستحضر المتشددين من [السلفيين]، ثم لا يستحضر [القرامطة ] و[الحشاشين ] و [ الزنوج ] و[الباطنية و[الروافض]و[الصهاينة]، واللعب السياسية الماكرة. فَمِن المسْتَخِفِّين بالعواقب، من لا يترددون في نسبة هذه الوحشية إلى [السلفية]، لا لشيء، إلا لأنها تُنافِسهم في المشهد: الفكري، والإعلامي، وتُعَرِّي ضَلالاتهم. فَالمتذيلون لبعض [المذاهب الغربية] المناقضة للإيمان، يفترون الكذب، ويلفقون الاتهامات، ولا ينظرون في أحقاب التاريخ، ولا يقرؤون مافي طياته من تنظيمات سرية، تضرب الرقم القياسي في التوحش والهمجية. وهل أحد ينكر المنظمات السرية في العالم أجمع عبر التاريخ، وأثرها في تفريخ الإرهاب ؟. والمنصفون من الساسة، والمفكرين، لا يقترفون خطيئة إلصاق الإرهاب بدين، أو عرق، أو زمان، أو مكان، أو نظام سياسي. ذلك أنه وليد ظروف طارئة، ولعب سياسية محكمة الصنع. ومن يتصفون بسمة الإرهاب في القول دون الفعل، لا يتحرجون من الخوض في أعراض الأطياف، والمذاهب، والأشخاص، واتهامهم باحتضان الإرهاب، وتغذيته. وكم من مجازفات في الاتهامات، أسهمت في تصدع وحدة الأمة، واشتعال فتنة التناجي بالإثم، والعدوان، ومعصية الحق الصراح. ولو أن أحداً من الغربيين : شخصا كان، أو مؤسسة قال: إن ظاهرة [داعش] المحيرة لكل فكر، والمثيرة لكل انتباه نبتة سلفية. أو قال: إن الوهابية صنيعة يهودية. أو قال: إن محمد بن عبدالوهاب كـ [الصفوي ]، أو كـ [ مشيل عفلق ]، أو كـ [ لينين ]. لثارت ثائرة الأمة الإسلامية، وأوجفت بألسنتها، وأقلامها عبر المنابر، ووسائل الإعلام : المقروء والمسموع، والمرئي، لاجهاض هذه المقولات، واتهام قائلها بالكيد للأمة الإسلامية. فكيف بتلك المقولات، وقد انشقت عنها شفاه آثمة، ونطقت بها ألسنة كاذبة من أبناء جلدتنا. وكيف لا يتردد أمثال هؤلاء المجازفين في إدانة أمتهم، وتقديم الوثائق التي تمثل بقوتها، شاهد الأهل للأعداء المتربصين، الذين يبحثون عن الشرعية لضرب الإسلام. ودعك من فلتات ألسنة موبوءة، لا تزيد أمتها إلا خبالاً. هذا لون من ألوان الإرهاب القولي، الذي لا يلقي له البعض بالاً، مع أنه يشكل وبالاً على أمن الشعوب واستقرارها. وكيف يتهيأ لأمة مهيضة الجناح أن تنهض من كبواتها، وأبناؤها يؤلبون عليها الأعداء، ويتولون كِبْر الخطيئات بتلفيق الاتهامات، وتفكيك التلاحم، ونقض عرى الوحدة، والوئام عروة عروة. فَمَن اتهم السلفية على الإطلاق. ماذا يريد من اتهامه؟. وَمَنْ لمز، أو غمز، أو همز علماء الأمة المشهود لهم بالفضل، وهو بذاته سلفي، كيف يستل نفسه من سلفيته؟. أيريد هذا الصنف من المتقولين تصفية السلفية، وهي ذروة سنام أهل [السنة والجماعة]، وإذا أجيب تَّقَوُّلُه، فأي نحلة يراها الأنسب، لتحل محل السلفية ؟ لقد قلنا، ولما نزل نلح بالقول: إن لكل مذهب طرفين، ووسط. وإن التشدد، والتطرف ينتابان النحل، والملل، والمذاهب والأحزاب، والأناسي. والعاقل لا يعمم في الأحكام، ولا يزكي النفس، ولا العشيرة، وفي الوقت نفسه، لا يعتمد الإطلاقات المعممة. ومن ادَّعى العصمة، والسلامة، و تسامى فوق النقد، والمساءلة، فقد ضل ضلالاً بعيدا، وحاد عن الطريق السوي. وامتعاضنا من المجازفين في القول، لا يَعْنِي أننا واثقون من سلامة منهجنا، وخلوصه من الأخطاء العارضة، فنحن كغيرنا أحوج مانكون إلى مرايا الآخرين، وأحوج مانكون لتربية الناشئة على منهج السلف الصالح، القائم على الوسطية، والتسامح، والتيسير، و الاعتدال، والحيلولة دون انزلاقهم في مضلات الفتن، وتسللهم إلى بؤر التوتر. ونحن مع ثقتنا بأنفسنا، واعتدال رؤيتنا، وتمسكنا بمنهج السلف الصالح، لا ننكر أن فينا سَمَّاعِين للكذب، كما أن فينا أكالين للسحت.وليس أدل على ذلك من تلاحق إنشاء الهيئات الرقابية، والمحاسبية، والاحتسابية. غير أن هذه الانحرافات، تقع ضمن النسب المعقولة، التي لا ترقى إلى مستوى الظواهر، ولا تجعلنا عرضة للاتهام، وظلم الأقربين. والمتابع لِلْكُتَّاب، وأنصاف المتعلمين، والمتعالمين يروعه تهافتهم على الافتراء، وإظهار علمائهم، وقادة الفكر فيهم بالمظهر المزري، الذي لا يليق بمثلهم. وكيف يتأتى لسفينة الأمة أن تغالب الأمواج العاتية، وفيها مُخَذِّلون، ومُحَرِّضون، ومنشقون، ومجازفون في القول؟. أليس من مصلحتنا أن ندرأ عن معتقداتنا، وعلمائنا، ومفكرينا، وقادة الرأي فينا سيل هذه الاتهامات المثبطة التي يطلقها الماكرون، ويجترها المغفلون، ويستثمرها المستبدون ؟. أليس بإمكاننا وضع سقف، لا نتجاوزه، وميثاق شرف لا ننقضه. ثم لنَسْأل عن المستفيد من هذه الإثارات، وعن المتضرر منها. إن من التماكر تذويب مقولة: إن [داعش] نبتة سلفية بالتأويلات الباطلة. إذ بإمكان الذي قال :- إن الوهابية صنيعة يهودية، أن ينجو من مقترفه بالتأويل الكاذب. ولقد يكون بإمكان الآخرين، وعلى ضوء تبرير تلك المقولتين الظالمتين، القول بأن [المنافقين] في المدينة نبتة صحابية. وأن المرتدين في زمن [أبي بكر الصديق] - رضي الله عنه - نبتة إسلامية، على [اعتبار] أن المنافقين كفروا بعد إيمانهم، وأن المرتدين جزء من المجتمع الإسلامي. هاتان المقولتان الجائرتان، وجهان لعملة واحدة. وحينئذ يجب في ظل الفوضى الفكرية ألا تمرا بسلام، على حد:- [فَمَضَيْتُ ثَمَّةَ قُلْتُ لا يَعْنيني]. أنا ضد استعداء السلطة على أحد، وضد أن يضار أحد بسببي، ولكنني أريد أن نضع حداً لمثل هذه المجازفات التي تعد بحق إرهاب ألْسِنة، لا يقل عن إرهاب الأَسِنَّةِ. ولما لم يكن هناك متسع من الجهد، والوقت عند أمتنا، للتصدي، والتحدي، والصمود، فإن الرأي السديد، والتصرف الرشيد يكمنان في تَغْلِيب جانب الصمت، والسلم، والاهتمام بخويصة النفس، إنفاذاً لأمر الباري : {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، وبخاصة إذا كانت الأمة ذات مكتسبات، ومثمنات يُخشى زوالها. فبلادنا حَبَا اللهُ أَهْلها، وأنعم عليهم، حين أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف. وحَقُّه عليهم، وقد وهبهم هاتين النعمتين اللتين مَنَّ الله بهما على [قريش]، وناشدها بعبادته، أن يكونوا سباقين لامتثال أمره على مراده، مستشعرين ثقل التكليف، وعظم المسؤولية:- {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} وثِقل القول يكمن في فهم المراد، وأداء المطلوب. واستيعاب المقاصد الشرعية، يتحقق بامتثال الأمر، على الوجه الذي يرضي الله، ولا يسيء لأحد من خلقه. فالمسلم لمَاً يزل في فسحة من أمره، مالم يصب دماً حراماً. وهو كذلك في فسحة من أمره، مالم يَلِغْ في أعراض الناس، ويفتري عليهم. وماذا قال الله للمنافقين الذين قالوا فيما بينهم ماظنوه أحاديث سمر:-{ لَاتَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }إنه التخذيل، والتخبيل، واستعداء الأعداء. إننا لا نجد حرجاً حين نُقْرَءُ بعين الغير، ثم لا تكون القراءة دقيقة، ولا منصفة، فللغير مبرراته، وطموحاته، وإمكانياته. وهو حين يقترف خطيئة القراءة التآمرية، لا يكون بالضرورة نزيها، ولا باحثا عن الحقيقة. وحينئذ لا يصدمنا التحامل، ولا يفاجئنا الافتراء. ولكن الحرج يزداد ضيفاً، والاستياء يزداد احتقاناً، حين نُقْرء بعين الذات، ثم لا تكون القراءة واعية لملابسات المشهد. وليس من متطلبات العدل، والإنصاف في القراءة المنشودة أن تكون قراءة موافقة لما نريد، محتكرة للحقيقة، مهمشة لسائر الرؤى، مباهية بما ترى. فالاختلاف واقع، لامجال لإنكاره، ولا قدرة لتفاديه. إن ما نريده من قراءة أولي القربى، أن تكون واعية، مدركة، متفادية لتشويه الذات، وتحميلها جرائر الغير. وهو ما لا نجده عند الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في كافة المشاهد، مما هو معدود من ظلم الأقربين. ما أشرت إليه من وقوعات قرائية خاطفة، لا يعني الحصر، فالمشهد مليء بالقراء المجازفين، الذين يرهبون بقراءتهم ذوي القربى، ويستعدون بها الأعداء. وما على المتردد إلا أن يلقي السمع، وهو شهيد، ليعلم علم اليقين أن الإرهاب قول وعمل، يزيد، وينقص، وأن الكلمة تصنع الموقف، وأن الرصاصة تحمل عليه. فالكلمة أُمُّ الخبائث، حين لا تؤخذ بِحَقِّها، ولا يؤطر السفهاء الحاملون لها.