كما هو الحال في الأمراض التي تُصيب الأفراد، حيث للمرضى تاريخ يحتفظ به الأطباء في ملفاتهم، فإن الأمراض الاجتماعية وما تنقله من عدوى إلى السياسة وكل مجالات الحياة لها تواريخ وليست ابنة اللحظة أو نَبْتاً شيطانياً. ربما لهذا السبب بدأ بعض المفكرين العرب بالعودة إلى قرون خَلَتْ للبحث عن جذور هذا الدّاء الذي أصاب أمَّة برمتها، سواء تعلق الأمر بالنزاعات الأهلية ذات البعد الطائفي أو بمجمل التربويات التي أنتجت ثقافة تشكو من خلل في التوازن. العودة إلى الماضي في هذا السياق ضرورية لكن الإفراط في ذلك. يتحول إلى إغفال للراهن. وما يجري الآن من حولنا وتحت أقدامنا. وأهمية هذه العودة سواء كانت بهاجس أكاديمي أو معرفي وموسوعي عام هي إنقاذ الواقع العربي من براثن الاستشراق، الذي تعامل لزمن طويل مع الشعوب المقهورة والمبتلاة بالاستعمار كما لو أنها فئران بيضاء في مختبراته السايكولوجية، وبقدر ما أن الواقع الذي نعيشه بل نعانيه على مدار اللحظة نتاج عوامل سابقة عليه ، فهو سيصبح بمرور الوقت ماضياً بالنسبة للأجيال القادمة ، لهذا فإن اللحظة الآن تجسد اشتباكاً قد يصعب فضه بين ما مضى وما سوف يأتي. ولو أخذنا ظاهرة العنف والتطرف مثالاً لوجدنا أنها لم تولد في عصرنا بل تمتد جذورها ومكوناتها في التاريخ ، لهذا يحاول المتطرفون الآن شرعنة تطرفهم وتبريره بإيجاد أسلاف له ، خصوصاً حين يكون المنهج المتبع انتقائياً ، يختار ما يريد وما يتناغم مع أطروحاته ويترك ما لا يروق له. في الماضي غير البعيد كان الاستشراق ينوب عنا في قراءة ماضينا والأخطر من ذلك هو ما نبه إليه المفكر الراحل مالك بن بني حين حذر العرب والمسلمين من تبني ما يقرأونه عن أحوالهم. فذلك بحد ذاته اغتراب واستلاب. وما جرى في عالمنا العربي خلال الآونة الأخيرة اجتذب مجدداً نمطاً آخر من الاستشراق وهو استشراق عسكري بامتياز وإذا لم نصدق المثل العربي القائل ما حك جلدك غير ظفرك، فإن جلودنا سوف تتقرح وتتقيح من أظفار لها قوة الأنياب والمخالب.